مقدمة:
منذ فجر التاريخ، تملّك الإنسان فضول دفعه للتساؤل عن ماهية الوجود، وكيفيّة نشأة الكون، وما وراء الظواهر الطبيعية التي تحيط به. ولقد برز هذا السعي جليّاً في رحلة الفلاسفة والعلماء عبر العصور، ممّا أدّى إلى ظهور اتجاهات فلسفية متباينة، سعت كلّ منها لتقديم تفسير شامل للوجود وكيفية تكوّنه.
ومن بين أهمّ هذه الاتجاهات، برز مذهب الثباتية (Essentialism) كمدرسة فكرية تُؤمن بوجود جوهر ثابت لكلّ شيء، وأنّ هذا الجوهر هو الذي يُحدّد هويّة الشيء وخصائصه. ويرى أتباع الثباتية أنّ العالم مُكوّن من كيانات ثابتة لا تتغيّر، وأنّ التغييرات التي نراها إنّما هي مجرّد ظواهر عارضة لا تُمثّل التغيير الحقيقي في جوهر الأشياء.
يُعدّ أفلاطون من أشهر فلاسفة الثباتية، حيث اعتقد بوجود عالم مثالي مُجرّد يحتوي على الأشكال المثالية للأشياء، وأنّ عالمنا المادي إنّما هو ظلّ ناقص لهذه الأشكال المثالية. كما أنّ أرسطو، تلميذ أفلاطون، ساهم بدوره في تطوير مذهب الثباتية من خلال نظريته عن "العلّة الأربعة"، التي تُفسر نشأة كلّ شيء من خلال أربع علل: العلّة المادية، والعلّة الصورية، والعلّة الفاعلة، والعلّة الغائية.
وفي مقابل مذهب الثباتية، ظهر مذهب التطورية (Evolutionism) كمدرسة فكرية تُؤمن بوجود تغيّر مستمر في جميع جوانب الكون، وأنّ هذا التغيّر هو القانون الأساسي الذي يحكم الوجود. ويرى أتباع التطورية أنّ العالم لم يكن موجوداً منذ الأزل بشكلّه الحالي، بل إنّه قد نشأ من خلال عمليات التطور والتغيّر على مرّ الزمن.
يُعدّ داروين من أشهر فلاسفة التطورية، حيث قدّم نظريته الشهيرة عن "الانتقاء الطبيعي" لتفسير تطوّر الأنواع. ويرى داروين أنّ الأنواع الحيّة لم تتكوّن دفعة واحدة، بل إنّها قد تطوّرت تدريجياً من خلال عملية "البقاء للأصلح"، حيث تُبقى الكائنات الأكثر قدرة على التكيّف مع بيئتها، بينما تنقرض الكائنات الأقلّ قدرة.
شكّل الصراع بين الثباتية والتطورية محور نقاشات فلسفية عميقة امتدت عبر العصور، حيث حاول كلّ اتّجاه تقديم أدلّة تُثبت صحة نظريّته. ولقد ساهمت هذه النقاشات في دفع عجلة التقدّم العلمي والفكري، ممّا أدّى إلى فهم أفضل لطبيعة الوجود والكون.1
- فماهي الفروقات الفعلية بين المذهبين ؟
- وكيف كان تأثيرهما على مسار العلم وفلسفته ؟
المبحث الأول: المذهب الثباتي، بين ثبات الجوهر وتغير المظهر
المذهب الثباتي نظرة فلسفية:
يتبوأ المذهب الثباتي مكانة بارزة بين أهمّ التيارات الفلسفية التي ازدهرت في رحاب الفكر الإسلامي، ليُرسي قواعد ثابتة حول ثبات الأجسام وعدم قابليتها للتغير. ويُؤرّخ تأسيس هذا المذهب إلى الفيلسوف اليوناني العظيم أرسطو، حيث تبنى العديد من رواد الفكر الإسلامي، على رأسهم الكندي والفارابي وابن سينا، أفكاره حول ثبات الكيانات المادية2.
وتُعدّ هذه النظرية محوراً أساسياً في البنية الفلسفية الإسلامية، حيث تُشكل قاعدة جوهرية لفهم طبيعة الوجود والعالم المادي. وتتميز هذه النظرية بدقتها ومنطقيتها، ممّا جعلها تحظى بقبول واسع بين أوساط الفلاسفة الإسلاميين على مرّ العصور2.
ولقد برزت العديد من المدارس الفكرية التي ساهمت في تطوير المذهب الثباتي وتعميق أفكاره، ممّا أضفى ثراءً فكرياً هائلاً على هذا المجال. ونذكر من أهمّ هذه المدارس مدرسة بغداد ومدرسة البصرة، اللتان لعبتا دورًا هامًا في نشر وترويج أفكار المذهب الثباتي.
ولم يقتصر تأثير المذهب الثباتي على الفلسفة الإسلامية فحسب، بل امتدّ ليطال مجالات معرفية أخرى مثل علم الكلام والفقه، ممّا يدلّ على أهمية هذا المذهب وعمق تأثيره على الفكر الإسلامي بصفة عامة.
وبالرغم من بروز تيارات فلسفية أخرى تناقضت مع المذهب الثباتي، إلاّ أنّ هذا المذهب ظلّ يحتفظ بمكانته المرموقة في سياق الفكر الإسلامي، ممّا يدلّ على قوته وصلابته.
مبادئ المذهب الثباتي:3
1- ثبات الأجسام: جوهرٌ لا يتغير
يُرسي المذهب الثباتي قاعدة أساسية مفادها أن الأجسام في حالتها الطبيعية تتمتع بثباتٍ مطلقٍ لا يتزعزع. فما نراه من تغيراتٍ على الأجسام إنما هو نتاج عوامل خارجية تُؤثّر عليها، بينما يبقى جوهرها ثابتًا لا يتغير.
يُضرب أصحاب هذا المذهب أمثلةً توضيحيةً، مثل قطعة من الحديد التي تتعرض للتآكل بفعل عوامل بيئية، أو ثمرة تفاح تسقط من شجرة بفعل الجاذبية الأرضية. ففي كلتا الحالتين، تبقى هوية الحديد والتفاح كما هي، على الرغم من التغيرات الظاهرة التي طرأت عليهما.
2- الجوهر والعرض: خط فاصل دقيق
يُولي المذهب الثباتي اهتمامًا كبيرًا للتمييز بين مفهومي الجوهر والعرض. ففي نظرهم، يُمثل الجوهر البُعدَ الثابتَ الذي يُحدد هوية الشيء ويُميّزه عن غيره، بينما يُشير العرض إلى الصفات المتغيرة التي قد لا تُلامس جوهر الشيء.
على سبيل المثال، يُعدّ "الحديد" جوهرًا لقطعة معدنية، بينما يُعدّ "اللون" و"الشكل" عرضًا لها. فمهما تغيّر لون وشكل قطعة المعدن، فإنها تبقى حديدًا في جوهرها.
3- القوة والفعل: طاقة كامنة بداخل كل جسم
يُؤكّد المذهب الثباتي على أن كل جسمٍ ماديٍّ يحمل في داخله طاقة كامنة تُتيح له إحداث فعلٍ ما. وتتجلى هذه الطاقة بوضوحٍ في حركة الجسم أو قدرته على تغيير جسمٍ آخر.
فمثلاً، عندما تُلقى كرة على الأرض، تُمارس الكرة قوةً على الأرض، والعكس صحيح. وبالمثل، عندما تُدفع عربة، تُمارس القوة المُطبّقة على العربة فعلًا يُحرّكها من مكانها.
4- العلية والمعلولية: ربطٌ محكمٌ بين الأحداث
يُؤمن أصحاب المذهب الثباتي بقانون العلية والمعلولية، الذي ينصّ على أنّ كل معلولٍ لابدّ أن يكون له سببٌ محددٌ، وأنّ هذا السبب لابدّ أن يكون سابقًا على معلوله.
بمعنى آخر، لا يمكن أن يحدث أيّ حدثٍ دون وجود سببٍ يُفجّره. فعلى سبيل المثال، لا يمكن أن تسقط شجرة دون أن تُؤثّر عليها رياحٌ قوية.
المبحث الثاني: المذهب التطوري، تحولات لا تنقطع
المذهب التطوري نظرة فلسفية:
يشكل مفهوم التطور حجر الزاوية في فهمنا للعالم، فهو يؤكد على ديناميكية الوجود وتحوله المستمر من حالة إلى أخرى. ونجد جذور هذا المفهوم راسخة في الفكر العربي الإسلامي، حيث برزت بوادره مع الجاحظ وإخوان الصفا، وتطورت مع ابن خلدون لتصل إلى ذروتها في العصر الحديث.4
في السياق الإسلامي ازدادت وضوحًا أفكار التطور مع ابن خلدون، رائد علم الاجتماع، الذي ربط التطور بالتاريخ والظواهر الاجتماعية. ففي مقدمة كتابه "المقدمة"، أكّد ابن خلدون على أنّ الحضارات والعمران يتغيران عبر الزمن، وأنّ المجتمعات تخضع لدورات من الصعود والهبوط.4
لكن تجدر الإشارة إلى أن أفكار التطور في الفكر العربي الإسلامي ظلت محدودة نسبيًا مقارنة بنظريات التطور الحديثة. ففي حين ركز مفكرو الإسلام على التطور الاجتماعي والثقافي، لم يتطرقوا بشكل عميق إلى التطور البيولوجي.
أما في السياق الغربي ورغم أنه يُمكن تتبع جذور المذهب التطوري إلى فلاسفةٍ إغريقٍ قدامى مثل هراكليطس، الذي آمن بأنّ "كلّ شيءٍ يتدفق"، وأفلاطون، الذي اعتقد بوجود عالم مثالي تتجسد فيه المُثل العليا، وتسعى الكائنات الحية في العالم الماديّ إلى الوصول إليه، فإننا نلاحظ ازدهار هذه الأفكار في الفكر الغربي مع ظهور علماء مثل لامارك الذي وضع نظرية "التطور الوراثي المكتسب".5
ولكنّ الثورة الحقيقية في مجال التطور حدثت مع تشارلز داروين، الذي نشر في عام 1859 كتابه الشهير "أصل الأنواع". حيث قدّم داروين في هذا الكتاب نظرية "الانتقاء الطبيعي" التي شكّلت أساسًا متينًا لفهم آليات التطور.5
مبادئ المذهب التطوري:5
يرتكز المذهب التطوري على مجموعة من المبادئ الأساسية، تشمل:
1- التغير المستمر:
تنصّ هذه المبدأ على أنّ جميع الكائنات الحية في حالة تغيّر مستمرّ ودائم، وأنّ الأنواع البيولوجية ليست ثابتة بل تتطور بمرور الزمن.
2- التنوع:
تُشير هذه المبدأ إلى أنّ التنوع الهائل في الحياة على الأرض هو نتيجة لعملية التطور، وأنّ الأنواع المختلفة قد نشأت من أصل مشترك.
3- الانتقاء الطبيعي:
يُعدّ الانتقاء الطبيعي المحرك الأساسي للتطور، حيث أنّ الكائنات الأكثر قدرةً على التكيف مع بيئتها هي التي تبقى وتتكاثر، بينما تنقرض الأنواع الأقلّ قدرةً على التكيف.
4- الوراثة:
تُعدّ الوراثة آلية انتقال الصفات من جيل إلى آخر، وهي المسؤولة عن تنوع الكائنات الحية وتطورها.
5- التباعد التدريجي:
تنصّ هذه المبدأ على أنّ الأنواع الجديدة تنشأ من خلال عملية التباعد التدريجي من الأنواع الموجودة مسبقًا، وذلك بفعل التغيرات الوراثية والتكيف مع البيئات المختلفة.
6- التعميم:
يُمكن تطبيق مبادئ التطور على مختلف مجالات الحياة، بما في ذلك الكائنات الحية والمجتمعات والثقافات.
يُعدّ المذهب التطوري نظرية علمية مدعومة بأدلة قوية من مختلف مجالات العلم، مثل:
علم الأحياء التطوري: يُقدم هذا العلم أدلةً مُقنعةً على تغيّر الأنواع بمرور الزمن، وذلك من خلال دراسة الأحفورات والسجلات الجينية.
علم التشكل المقارن: يُظهر هذا العلم التشابه في التركيب التشريحي بين الأنواع المختلفة، ممّا يدعم فكرة النشوء المشترك.
علم الجينات: يُقدّم هذا العلم أدلةً على دور الوراثة في نقل الصفات من جيل إلى آخر، ممّا يُفسّر تنوع الكائنات الحية.
الخاتمة:
شهدت فلسفة العلم نقاشًا حادًا حول طبيعة العالم الطبيعي، فتنازع المذهب الثباتي والمذهب التطوري لتقديم تفسيرات مغايرة لِنشأة وتطور الأنواع.
المذهب الثباتي، الذي يُمثّل وجهة نظر تقليدية، ينادي بثبات الأنواع، معتقدًا أنّ كل نوع خُلق بشكل منفصل ودائم دون أي تغيير عبر الزمن. بينما يُعارض المذهب التطوري هذه الفكرة جَذْرِيًّا، مؤكّدًا على أنّ الأنواع تتغير وتتطور بمرور الوقت، وأنّ جميع الكائنات الحية تنحدر من سلف مشترك.
يُهيمن المذهب التطوري على العلم الحديث، مدعومًا بأدلة قاطعة من مختلف مجالات العلوم، مثل علم الأحياء، وعلم الأحفوريات، وعلم الوراثة، وعلم التشريح المقارن. فقد أظهرت الاكتشافات العلمية قدرة الأنواع على التكيف مع بيئتها، وكشفت عن تنوع هائل في أشكال الحياة على الأرض.
تُقدم نظرية التطور تفسيرًا منطقيًا لِعمليات التغير التي تُلاحظ في العالم الطبيعي، مثل ظهور أنواع جديدة وانقراض أنواع أخرى.
ومع ذلك، لا يزال المذهب الثباتي يحظى بدعم من بعض الفئات، خاصةً لأسباب دينية أو فلسفية.
ففي حين أنّ العلم قدّم أدلة قوية تدعم التطور، إلا أنّ الجدل حول أصل الأنواع لا يزال مستمرًا، مع طرح أسئلة حول آليات التطور، ودور الخالق في عملية التغير.