المقدمة:
من بين المسائل، التي شغلت عقول المتكلمين وبعض الفِرق الإسلامية، منذ القرن الهجري الأول، هل أن الأعمال البشريَّة اختيارية أم إجبارية؟ ورغم تفاوت وتعارض الآراء والأفكار بين بعضهم بعضاً، فإنهم جميعاً كانوا يتفقون وينافحون في مسألة التوحيد، عقيدة المسلمين الأساسية. وكان سياق الجدال في هذه المسألة ناتجاً عن التمازج الفكري والفلسفي للعقل العربي الإسلامي مع حضارات وثقافات شرقيَّة وغربيَّة سبقت الإسلام، اليونان والهند أنموذجاً.
المبحث الأول : الجَهْمية
كان المتكلمون الذين يدافعون عن فكرة الجبر، ينظرون إلى إرادة الإنسان باعتبارها عاجزة، لأن الله خلق الأفعال والاختيارات إلى الأبد. فعن زعيم الجبريين جَهْم بن صفوان (78-126ه/ 696-745م) قال إن: الإنسان مثل ريشة بمهب الريح، لا حول ولا قوة له، فهو مسلوب الإرادة والقدرة والاختيار، يتحرّك كما تتحرك الأشجار والظواهر الطبيعية الأخرى، إذ "لا فاعل إلا الله". فإذا جعلنا الإنسان خالقاً أفعاله أشركنا بالله إلهاً آخر، وقلنا بخالقين في الكون، تعالى الله عن ذلك علّواً كبيراً.
أمَّا عن النصوص القرآنية، التي تفيد الاختيار، فحسب رأي جهم، يجب تأويلها. وحسب رأيه أيضاً، إن الإيمانَ هو المعرفة بالله فقط، وإن الكفرَ هو الجهلُ به، وإن الجنةَ والنارَ تفنيان بعد يوم القيامة، وإن الله وحده الذي يبقى. ولقد أدت هذه المفاهيم بجهم إلى إنكار صفات الله، لكي يتجنَّب أي تشابه بين الإنسان والله من سمعٍ وبصرٍ وكلامٍ.
المبحث الثاني : الرد على الجَهْمية
بطبيعة الحال، كان عددٌ كبيرٌ من العلماء والمتكلمين ضد آراء جهم الجبرية، ومن بينهم أهل السلف وأهل الحديث وأهل السُّنة، علاوة على إخوان الصفا وخلان الوفا، والقدريّة، ومن أقطاب الفرقة القدريّة معبد الجُهني (80ه/ 702م)، وغيلان الدمشقي (106ه/ 724م)، وواصل بن عطا (71-131ه/ 699-749م). حيث اتفقوا جميعاً على نفي القدر، وإثبات أن الإنسان لديه القدرة والحرية في الاختيار لفعل الخير أو الشر، وأن الله أعطاه إرادة حرة حتى يتمكّن من ثوابه أو عقابه في يوم القيامة، وإذا تم تحديد أفعال الإنسان بالكامل من قِبل الله، فلماذا ينبغي عليه معاقبة الإنسان يوم الحساب؟ إن الله حكيم عادل لا يجوز أن يُضاف إليه شر ولا ظلم،
المبحث الثالث : رأي المعتزلة
لقد انصهرت أفكار القدريّة تدريجياً في المدرسة الفكرية المعتزلية، إذ أقرَّ واصل نفي القدر كقاعدة رئيسة من قواعد العدل في المفهوم المعتزلي. إذ إن حرية الإنسان كانت أهم قضية أساسية عند المعتزلة. وحسب رأي المعتزلة إن الله أعطى العباد القدرة على فعل ما يريدون، من أجل الخير أو الشر، وهذه الحرية هي واحدة من أسباب العقل، ومن دونها لن يكون لدينا أي فِهّم. لذلك لا يحدث شيء إلا من عند الله، لكن الشر لا يأتي منه تعالى، بالأحرى يأتي من حرية الاختيار للإنسان.
وهكذا، إن الإنسان "قادرٌ خالقٌ أفعاله، خيرها وشرها"، فهو مستحق على ما يفعله ثواباً وعقاباً في الدار الآخرة. والرب تعالى منزهٌ أن يضاف إليه شر وظلم، وفعلٌ هو كفر ومعصية، لأنه لو خلق الظلم كان ظالماً، كما لو خلق العدل كان عادلاً.
وهنا يبرز السؤال التالي: إذا كان "الرب تعالى منزهاً"، فمن أين جاء الشر والفساد في هذا العالم؟ جواب المعتزلة في النص أعلاه: إن الإنسان قادرٌ خالقٌ أفعاله، خيرها وشرها، مستحق على ما يفعله ثواباً أو عقاباً. فالله لم يخلق أفعال الإنسان، لكنه أوجد القدرة (الاستطاعة) فيه.
هذا وأطلق المعتزلة على أنفسهم اسم "أهلُ العدل"، إذ أكدوا أن للإنسان قدرة الفعل وحرية الاختيار كجزء من العدل الإلهي في هذا العالم الدنيوي. وأمّا السبب الذي دفعهم إلى نفي القدر فلكي ينفوا عن الله الظلم والقبح. ولقد اعتمدوا أيضاً على عديد من الآيات القرآنية لدعم وجهات نظرهم، منها:
"كُلُ نفسٍ بما كسبت رهينة". (38:74).
"مَن عمل صالحا فلنفسهِ ومَن أساءَ فعليها". (46:41).
"وَقُل الحقُ من رَّبِكمُ فَمَن شاءَ فليُؤمن َوَمن شاءَ فليكفُر". (29:18).
"إنَّا هديناهُ السبيلَ إمَّا شاكرا وإما كفُورا". (3:76).
المبحث الرابع : رأي الأشاعرة
أراد الأشاعرة أن يوفقوا بين الجبرية والقدرية، فجاؤوا بنظرية الكسب، و هي لا تنفي قدرة العبد ولا اختياره، وإنما تنفي تأثيرَ قدرته في شيء من أفعاله، وقد ساقهم إلى القول بذلك النصوصُ الكثيرةُ من الكتاب والسنة المصرحةِ بتفرُّدِهِ تعالى بخلقِ كلِّ شيءٍ، الدالة على أنه لا مؤثر في الكون إلا الله،
الخاتمة:
عموماً كان المعتزلة أكثر عمقاً في بحثهم بمسألة حرية الإنسان، لكن المأخذ عليهم أنهم يعتبرون جميع أفعال الإنسان تكون مخلوقة بنفسه، ولهذا فقد هاجمهم الغزالي بقوة، وأكد أن الإنسان ليس أكثر من كائن مخلوق يتصرف الله به كيفما يشاء، وأن الحرية يجب أن يُنظر إليها على أنها ليست أكثر من مشورة نفسية، يمكن لأي إنسان أن يتمتع بها، طالما أنه لا يملك إرادة سلبية، بغض النظر عن التغييرات في الظروف الحياتية.
المراجع:
الجبر والاختيار في الفلسفة الإسلامية ، عماد الدين الجبوري ، 2019
بيان مسألة القدر على مذهب الأشاعرة، الشيخ محمد صالح بن أحمد الغرسي
تحميل البحث يصيغة PDF