ورقة بحث : مصادر الفلسفة المسيحية

0

المقدمة:
لبِثَت الفلسفة في مرحلتها الأولى اليونانية نحوًا من ألف سنة، تبدأ بطاليس سنة ٦٢٤ق.م، وتنتهي بنهاية القرن الخامس بعد ميلاد المسيح. وفي نهاية هذه المرحلة كان صَوت المسيحية قد دوَّى في أرجاء أوروبا. فبدأ الفكر الإنساني — وقد اصطبغ بذلك الدين المسيحي الجديد — شوطًا جديدًا، امتدَّ نحوًا من ألف سنةٍ أخرى، كانت مهمَّة الفلسفة خلالها أن تؤيد بالدليل العقلي ما سلَّمَت به النفوس بالإيمان تسليمًا لا يقبل ريبةً ولا شكًّا، وهكذا أصبحتِ الفلسفة تابعةً للعقيدة، وأصبح العقل عونًا لها.

المبحث الأول : الكتب المقدسة

المطلب الأول : العهد القديم
الكتاب المقدس ويعرف أيضًا بعدة أسماء أخرى أقل شهرة منها كتاب العهود. يتكون من مجموعة كتب تسمى في العربية أسفارًا، ويعتقد اليهود والمسيحيون أنها كتبت بوحي وإلهام. الكتب التسعة والثلاثون الأولى مشتركة بين اليهود والمسيحيين، يطلق عليها اليهود اسم التناخ أما المسيحيون فيسمونها العهد القديم، ليضيفوا إليها سبعًا وعشرين كتابًا آخر يشكلون العهد الجديد. إلى جانب هذا التقسيم العام، هناك التقسيم التخصصي، فالتناخ أو العهد القديم، يتكون من مجموعة أقسام وفروع أولها التوراة التي تؤلف أسفار موسى الخمسة، ثم الأسفار التاريخية وكتب الأنبياء والحكمة، في حين أن العهد الجديد يقسم بدوره إلى الأناجيل القانونية الأربعة والرسائل وسفر الأعمال والرؤيا.

المطلب الثاني : العهد الجديد
بعد عام 150 مست الحاجة في الكنيسة إلى قاعدة شاملة تنظم المؤلفات الدينية حول يسوع، تمهيدًا لإدراجها ضمن قانون الكتاب المقدس، فكان المعيار المتبع صحة نسبتها إلى الرسل، وبرزت الأناجيل الأربعة نظرًا لصحة نسبها إلى الرسل من ناحية ولما تحلّت به صفات تتطابق مع التقليد الشفهي، ومع رسائل بولس التي اعتبرت قبلاً أسفارًا مقدسة، وحوالي عام 170 كان قانون العهد الجديد قد اكتمل وأضيف إليه سفر أعمال الرسل كمؤلف قانوني لكون مؤلفه هو لوقا مؤلف الإنجيل الثالث نفسه، ثم ضمّ إلى القانون لاحقًا رؤيا يوحنا والرسالة إلى العبرانيين إضافة إلى رسائل يوحنا الثلاث ورسالتي بطرس فضلاً عن رسالة يهوذا ورسالة يعقوب، وذلك بعد نقاشات طويلة حول صحة نسبتها، إذ لم ينته ضم جميع الأسفار حتى نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع.

خلاصة:
كتبت أسفار العهد القديم بالعبرية التوراتية، وأسفار العهد الجديد باليونانية القديمة، ونتيجة انقراض كلا اللغتين، يدفع بمراجعات ترجمة المعاني دوريًا، وبكل الأحوال فإنّ علماء الكتاب المقدس من مسيحيين أو يهود أو ملاحدة، اتفقوا أن النصّ الحالي مثبت إثباتًا حسنًا بضوء الأدلة الداخلية والخارجيّة، بغض النظر عن بعض التراجم التي لا تتبع أحدث الدراسات الكتابيّة. وتتضمن نصوص الكتاب المقدس الأحداث التاريخية، والترانيم، والأمثال، والخُطب، والِشعر، والنبوءات، بالإضافة إلى الأحكام القضائية، والفرائض العائلية، والشرائع الأدبية والدينية.

المبحث الثاني : الفلسفة اليونانية

المطلب الأول : المرحلة الهلنستية
تأثرت الفلسفة المسيحية المبكرة بالحركة اليهودية الهلنستية التي نشأتها نتيجة اللقاء بين المعتقد الديني العبراني والثقافة الهيلينية، أي الفلسفة الهيلينية بصفة خاصة، ويعود هذا اللقاء تاريخيا إلى مرحلة ما بعد فتوحات الاسكندر المقدوني (توفي عام 323 ق.م). فالعصر الهلنستي يعرف تاريخياً على انه عصر ما بعد وفاة الاسكندر المقدوني، ويعرف فلسفياً على انه عصر ما بعد وفاة أرسطو في عام 322 ق.م. وقد ظهرت خلال العصر الهلنستي تيارات ومدارس فلسفية كالابيقورية والرواقية والشكية و كذا المدارس السقراطية الصغرى كالكلبية والقورينائية والمجارية، وقد حاولت هذه المدارس تقديم رؤى حول الدين وقضية الألوهية.

المطاب الثاني : مدرسة الإسكندرية
خلال المرحلة الهلينيستية التي عرفت –كما سبق ذكره- ظهور مدارس فلسفية (سميت "بالمدارس الهيلينيستية") والتي حاولت تقديم رؤى حول الدين والألوهية والمصير والموت والحياة وبعض المواضيع الميتافيزيقية الأخرى، كان على اليهود أن يذودوا بالدفاع عن ديانتهم "التوحيدية" أمام الادعاءات التي طالتها والتي مفادها أن الديانة اليهودية هي ديانة شرقية بدائية، ليست إلا خرافات شرقية. في هذا الإطار ظهر في "مدرسة الإسكندرية الفلسفية" فلاسفة يهود (وحتى مسيحيين) في القرون الثلاث الأولى للميلاد تعرضوا في كتاباتهم إلى قضايا الوحي والمعتقدات الدينية السماوية، محاولين التوفيق بين معتقداتهم الدينية من جهة والفلسفة الهيلينية السائدة أنذلك من جهة أخرى.

المطلب الثالث : ميلاد الفلسفة المسيحية
نشأت الفلسفة المسيحية نتيجة اللقاء الفكري والروحي بين التقاليد الفلسفية القديمة (اليونانية خاصة وكذا الرومانية) مع العقيدة المسيحية، وكان ذلك منذ العصر الروماني، حيث أخذ الفلاسفة المسيحيون –علاوة على أيمانهم وقناعاتهم الدينية- يؤكدون على ضرورة إخضاع كل ما جاء في النصوص الدينية من قضايا متعلقة بالإله و والنفس والخلود والمصير إلى "البرهنة العقلية". ويؤكد هؤلاء الفلاسفة على أن النص والعقل متوافقان ولا يتعارضان، وهو ما جعل الفيلسوف فيلون السكندري يقول : "أن الوحي والعقل مصدرهما واحد، وهو الإله". فالفلاسفة حرصوا على إعلاء "العقل" وأكدوا على عدم تعارضه مع النص، محاولين التوفيق بين قناعاتهم الدينية والنظريات الفلسفية.
منذ أيام الكنيسة الأولى وحتى الوقت الحاضر ، استخدمت الكنيسة الأرثوذكسية استخدامًا انتقائيًا إيجابيًا للفلسفة اليونانية القديمة ، ولا سيما سقراط وأفلاطون وأرسطو والرواقيون. على سبيل المثال ، مصطلح "لوغوس" يوناني نشأ مع هيراقليطس ويعني العقل أو الفكر. في السياق المسيحي ، يأخذ الكلمة معنى أعمق ويصبح اسمًا لأقنوم الثالوث الثاني. أهم مبدأ يجب مراعاته هو أن المسيحية المبكرة تطورت في بيئة يونانية واستخدمت مفردات مشتركة في الكتابة الفلسفية والروحية واللاهوتية.

خلاصة:
هذا، باختصار شديد، هو العالم الذي تطور فيه ما يمكن أن يُطلَق عليه إيجازًا اسم الفلسفة الكاثوليكية، وقد وصلت هذه الفلسفة إلى أول مراحل نضوجها على يد القديس أوغسطين، الذي تأثر بأفلاطون أساسًا، وبلغت قمتها على يد القديس توما الأكويني، الذي أرسى الكنيسة على أسس أرسطية ظل كبار أنصارها يُدافعون عنها منذ ذلك الحين.

المبحث الثالث : أثر الأفلاطونية الحديثة في الفلسفة المسيحية

المطلب الأول : أفلوطين
فيلسوف ولِد في مصر في عام 204 ميلادية، ونشأ وفق تقاليد يونانية خالصة، وتوفي بروما عام 270 ميلادية، وكان آخر مفكري العصر الروماني الكبار.
تأثر أفلوطين بالفلسفة الأفلاطونية وكان أول ما فعله بعد استقراره في روما أن أنشأ مدرسة فلسفية أفلاطونية وظل يدرس بها نحو عقداً أو عقدين أسس خلالها قواعد الفلسفة الأفلاطونية الحديثة.
يمكن تلخيص الفلسفة اللاهوتية لبلوتين في جمل محدودة حيث اعتقد في إلهٍ مثلث الأجزاء، وكان الثالوث البلوتيني يختلف عن الثالوث المسيحي في أمرين:
تكون الثالوث البلوتيني من "الواحد" و"الروح" و"النفس"، بينما تكون الثالوث المسيحي من "الأب" و"الإبن" و"الروح القدس".
مثَّلت أجزاء الثالوث البلوتيني درجات بعضها فوق بعض، بينما يمثل الثالوث المسيحي درجة واحدة من حيث الجوهر لكنها مثلثة الأقانيم.

المطلب الثاني : نظرية الفيض
قَدّم أفلوطين مَنهجًا فلسفيًا مَزَجَ فيه بين التفكير الفلسفي والتعبّد الديني ، حيث دَمَجَ مفهوم الواحد الإنساني بالواحد الإلهي واعتبر الأوّل يدور في فلك الثاني والذي هو الواجب والشرط في هذا الوجود. ولا يمكن تقديم أي تفسير لهذه الرؤية سوى أنَّه مزج بين فلسفات ومذاهب دَرَسَها واعتقد بها وسار على نهجها مجتمعة، كاليونانية التي تعتمد الجدل والحوار كأساس لبلوغ الحقيقة، والفلسفة الإسكندرانية الشرقية ذات الطابع الربّاني والتي تهدف إلى نَيل السعادة الأخروية، بالإضافة إلى الفلسفة الهندية والفارسية.
لقد كان الفكر الإلهي والنزعة التوحيدية واضحة متجذرة في فلسفة أفلوطين، إلّا أنَّه كان ينتقد وبشدة العقول التي كانت تنتهج الوثنية والجهل في العبادة، فقد كان يمقت التعاويذ والشعوذة، ويدعوا إلى استخدام الفكر والتفكّر من أجل إدراك أعلى مراتب المعرفة الإلهية.
إنَّ نظرية الفيض أو الصدور التي قدّمها الفيلسوف أفلوطين هي أحد أهم النظريّات التي جَمَعَت المباحث الفلسفية الثلاثة: القِيَم، والمعرفة، والوجود، من خلال تقديمها رؤية مفصّلة عن كيفيّة فيض سلسلة من العقول (الأرواح) والنفوس عن الواحد الحق. والوجود بنظر أفلوطين هو عبارة عن وحدة واحدة متماسكة ومترابطة عبر دائرة نوريّة، وأنَّها مُقسّمة إلى عالمين
الأول أسْماه العالم المَعقول أو العالم العلوي وهو في نظره العالم الحقيقي وفيه تحدّث عن الأقانيم الثلاثة، والثاني هو العالم المَلموس أو الدُنيوي وهو زائف وغير حقيقي وهو عالم الطبيعة والكون والأنفس الجزئية، وأنَّ الموجود في العالم السُفلي هو بطبيعته دائم التطلّع والنزوع نحو العالم العلوي من أجل بلوغ مراتب تكاملية أعلى، وعليه فإنَّ آراء أفلوطين ونظريّاته إنَّما هيَ نابعة ومتعلّقة بالعالم الأوّل، ذلك العالم الذي يتكوّن من معقولات ثلاثة: الواحد، والعقل، والنفس. والوجودُ بأكملِهِ مُعتمد على واحديّة الواحد والذي منه يصدر الفيض والنور ليشمل كلّ الموجودات، كلٌّ حسب قُربه وَمَرتبته من الواحد.

الخاتمة : مميزات وخصائص
من الناحية الفلسفية، احتد النقاش حول إمكانية الاعتراف بوجود "فلسفة مسيحية" لها مميزاتها ومواضيعها وتساؤلاتها التي تختص بها داخل الإطار العام للفلسفة ، كان من نتائج هذا النقاش –خاصة حول موضوع "الإله المسيحي"- في الفلسفة ما يلي:
•حلول "مذهب الخلق" كبديل للإيمان بأزلية العالم.
• التأكيد على "حرية الإنسان" ومسؤوليته الأخلاقية، وان "الشر" "والخير" في العالم هو نتاج لحرية الإنسان.
•الإله هو خالق "النفس البشرية" وهي خالدة بعد فناء الجسد.
في هذا الصدد، تأثر علم اللاهوت العقلاني والكسمولوجي والانثروبولوجيا الفلسفية بهذه "المخرجات الثلاث"، ما أدى إلى ظهور مفاهيم جديدة في الفلسفة الدينية، كفكرة "العظمة الإلهية " وتبعية المخلوق إلى الخالق والفصل بين العالم الفيزيقي والعالم الميتافيزيقي، والإيمان بتفرد الإنسان " ومسؤوليته الأخلاقية.


المراجع:

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي، برتراند راسل، ترجمة فؤاد زكريا
مصطفى النشار، مدخل جديد الى فلسفة الدين، الدار المصرية اللبنانية، 2015،
قصة الفلسفة الحديثة، زكي نجيب محمود وأحمد أمين
النشأة الأولى ونظريّة الفَيض عِندَ الفيلسوف أفلوطين ، د. أكر 


تحميل البحث بصيغة PDF






يتم التشغيل بواسطة Blogger.