ورقة بحث : النص الديني وإشكالية التأويل من غادامير إلى أركون

0
يرى توفيق سعيد في كتابه "ماهية اللغة وفلسفة التأويل"، أن التأويل أخذ منحنى فلسفيّا يتبع النزوع اللغويّ نحو التفلسف، الأمر الذي أخضع المسار التاريخيّ للتأويل لتحوّلات مفهوميّة هائلة بَدءًا من الحكمة اليونانيّة التي اشتقّ من لغتها لفظ هرمنوطيقا (التأويل)، مرورًا بالتراث الفلسفيّ الإسلاميّ والمسيحيّ الذي شهد محاولات للتعمّق في فهم النصوص الدينيّة وعقلنتها، وصولاً إلى عصرنا الراهن، حيث شكّل التأويل الفلسفيّ، من جهة، امتدادًا للتأويل التقليديّ بوصفه ذروة التطوّر التأويليّ من خلال إقحامه في مجالات المعرفة الواسعة، ومن جهة ثانية، شكّل انقلابًا عليه وخروجًا على ماهيّته بوصفه فلسفة تتطلّع إلى بلورة رؤية شاملة إزاء الكون والوجود. بدورنا في هذا البحث المقتضب، نحاول تتبع مسار تطور التأويل كمصطلح وكعلم، دليلنا في ذلك أحد قامات هذا المجال في القرن العشرين ممثلا في الفيلسوف الألماني غادامير، كما نعرج في إطلالة سريعة على تطبيقات هذه المناهج الحديثة على تراثنا الإسلامي في محاولات الفلاسفة والمفكرين من الجزائري محمد أركون والمصري نصر حامد أبو زيد إلى المغربي طه عبد الرحمان.  المبحث الأول: أصول التأويل عند هانس جورج غادامير ( غادامير، 2006) هانز جورج جادامير، فيلسوف ألماني ولد سنة 1900، اشتهر بعمله الشهير الحقيقة والمنهج ، وأيضاً بتجديده في النظرية التفسيرية الهرمنيوطيقا، توفي سنة 2002.  جذور مسطلح التأويل قبل العصر الوسيط تدل الهيرمينوطيقا على ممارسة فكرية، آلية والفنية، وهو ما يستحضره تشكيل اللفظ الذي يدل على التقنية، حيث يتخذ الفن هنا دلالة الإعلان والتراث والتفسير والتأويل، ويشتمل طبعا على فن الفهم كأساس ودعامة له، لكننا نجد في الاستعمال القديم للفظ نوعا من الالتباس، فقد اعتبر "هرمس" رسول الآلهة الى البشر، كما أن الأوصاف التي وصفه بها "هوميروس" تصفه بكونه يبلغ حرفيا ما وكل بتبليغه. كما نجد في الاستعمال الفلسفي، أن نشاط المؤول هو بالضبط ترجمة وايضاح العبارات الغريبة والمبهمة الى لغة مفهومة من طرف الجميع، فهو يقتضي الإدراك والإلمام الكامل باللغة الأجنبية، والأكثر من ذلك إدراك المقاصد والمعنى الحقيقي للعبارة المنطوقة. من الملاحظ أن "أفلاطون" لا يربط هذا اللفظ بأي تعبير عن الأفكار، وإنما لمعرفة (الرسول) الذي له خاصية الأمر والإذعان، كذلك التقارب بين فن التأويل والفن التكهني الذي هو فن تبليغ الإراده الإلهية، حيث يقف جنبا الى جنب مع فن إدراك هذه الإرادة أو التكهن بالمستقبل انطلاقا من علامات معينة، كما نلاحظ أن "أرسطو" لا يفكر إلا في المعنى المنطقي للعبارة، وهكذا تطور المعنى المعرفي للتأويل (هيرمينيوس) في الهيلينية المتأخرة، ليدل على التفسير العلمي أو المؤول (المترجم)، لكن الأصل المقدس القديم عمل باستمرار على تبيان الهيرمينوطيقا باعتبارها فنا أو آلية الفهم الذي يسمح بالكشف عن مسائل مبهمة ، في الوقت ذاته تدل على الفن بحيث تشكل الحكم والأقوال المأثورة المرجعية الهامة.  حركة التأويل في العصر المسيحي الأول تدل الهيرمينوطيقا في علم اللاهوت الثيولوجي، على فن تأويل وترجمة الكتاب المقدس والأسفار المقدسة بدقة، فهو في الواقع مشروع قديم النشأة وأداره آباء الكنيسة بوعي منهجي دقيق، وعلى وجه الخصوص عند القديس "أوغسطين" في مؤلفه (العقيدة المسيحية)، فنشاط العقيدة المسيحية قد أملاه التوتر الذي كان بين التاريخ الخاص للشعب اليهودي، والذي أوله العهد القديم على أساس كونه تاريخ الخلاص، وبين الإعلان الخلاصي للسيد المسيح في العهد الجديد، فقد استعمل في هذه الفترة التفكير المنهجي قصد إيجاد الحلول لهذه المسائل استلهاما من تعاليم وتصورات الافلاطونية المحدثة، تلقت الهيرمينوطيقا دفعا جديدا بالرجوع الى حرفية الكتابات المقدسة، كما مارسها الإصلاحيون من البروتستانت بدخولهم في جدال مع عقيدة الكنيسة، وكيف عالجت هذه الأخيرة النص المقدس وفقا لطريقة الأناجيل الأربعة، وعليه رفضت الطريقة الرمزية على وجه الخصوص، أو تم على الأقل تحديد وحصر الفهم الرمزي في الحالات التي تقتضيها صراحة دلالة الأمثال، كأمثال المسيح. سعى فن التأويل الى الرجوع الى المصادر الأصلية والبدايات الأولى، قصد الحصول على فهم جديد للمعنى الذي ظل محل تحريف وإفساد، سببه الاعوجاجات والتشويهات والإستعمالات السيئة وغير الوجيهة، كما هو الحال بالنسبة للإنجيل مع سلطة الكنيسة، وللآداب القديمة مع اللاتينية البربرية، وللقوانين الرومانية مع الأحكام القضائية الجهوية. لم يكن يهدف النشاط الجديد للفن التأويل فقط الى الفهم الدقيق، وإنما كان يسعى خصوصا الى الكشف عن قاعدة نموذجية، سواء تعلق الأمر بتبليغ رسالة إلآهية أو تفسير هاتف إلهي أو صياغة أحكام شرعية قسرية.  تشكل مفهوم الهيرمينوطيقا في عصر النهضة لقد ظهر استعمال كلمة التأويل، باعتبارها خاصية العصور الحديثة، تماما في الفترة نفسها التي تشكل فيها المفهوم الحديث للعلم والمنهج، منذ ذلك الحين أصبح الوعي المنهجي مسألة لا تنفك عن هذا المفهوم الحديث، حيث كان أول ظهور لمسطلح هيرمينوطيقا في عنوان إحدى الكتب عند "دانهاور" سنة 1654، و بدأ منذ ذلك الحين تمييز التأويل اللاهوتي عن التأويل القانوني. حاول التأويل اللاهوتي في بداية حركة الأنوار، إلتماس قواعد خاصة للفهم، فحظي النقد التاريخي للإنجيل بمصداقية متميزة، واعتبرت الرسالة اللاهوتية السياسية "لسبينوزا" الحدث الهام والرئيسي حينها، فنقده لمفهوم المعجزة خصوصا، وجد تبريره في طموح العقل بعدم الاعتراف إلا بما هو معقول، أي ممكن وجائز، فأصبح ينظر الى كل ما يصطدم بالعقل في الكتابات المقدسة بحاجة إلى ايجاد تأويل وتفسير طبيعي له، سعيا لجعل التأويل الاهوتي أمر مدرك ومفهوم.  تأسس علم التأويل في العصر الحديث يعتبر "شلايرماخر" الأول الذي من حرر فن التأويل، كمذهب عام وعالمي في فهم التاويل، من كل عناصره العقائدية في تطبيقاتها الانجيلية، على وجه الخصوص، لقد حولت نظريتة التأويلية، علماوية الثيولوجيا، عندما عارضت فيولوجيا الايحاء أو الالهام، بمناقشتها إمكانيه التحقق من إدراك الكتابات المقدسة باستعمال أدوات تفسير النصوص والثيولوجيا التاريخية. يمثل تأسيس الفهم عند شلايرماخر على قاعدة الحواري والتفاهم المشترك بين الافراد، استقصاء لأسس وقواعد فن التأويل، كما يمكن من تشييد منظومة العلوم على قاعدة تأويلية، لقد أصبح فن التأويل قاعدة لكل العلوم الإنسانية التاريخية، وليس فقط اللاهوتية، وعلى يد شلايرماخر أصبح التأويل السيكولوجي النفسي، القاعدة الأساسية للعلوم الانسانية. ثم يبتدئ عهد جديد في التفكير التأويلي مع "بولتمان" بتقاطعه مع التاريخانية الراديكالية وتأثره بالاهوت الجدلي، فقد أسس وساطة فعلية بين التفسير التاريخي والتفسير العقائدي، والتي ستفضي لاحقا الى قاعدة (الا أسطرة)، فلقد بحث بولتمان عن حل إيجابي يمكن تبريره منهجيا، دون أن يتخلى عن مكتسبات الثيولوجيا التاريخية. ثم تقدم الفلسفة الوجودية في نظر "هايدغر" كما بينها في مؤلفاته، موقفا محايدا وانثروبولوجيا، يزود فهم الذات للإعتقاد بأساس انطولوجي ، حيث أسس هايدغر مفهوم الهيرمينوطيقا، مشكلا بذلك الماهيات الفينومينولوجية عند "هوسرل"، ثم انتهى الى مفهوم التأويل الذي تم تحديد وتطوير دلالته النظرية، على يد "نيتشه"، حيث يستند نشاط التطور هذا، على الشك ازاء اثبات الوعي، كما يقول نيتشه صراحه: ينبغي الشك أفضل من ديكارت حيث ينتج هذا الشك عند نيتشه، عن تعديل دلالة الحقيقة، بحيث يصبح سياق التأويل أحد أشكال إرادة القوة ويحصل بكذلك على أهميته الأنطولوجية.  المبحث الثاني : التأويل عند محمد أركون والمناهج الغربية (كيحل، 2011) محمد أركون، فيلسوف ومفكر جزائري ، ولد سمة 1928م وتوفي سنة 2010م، باحث أكاديمي ومؤرخ متخصص في الدراسات الإسلامية و اللغة العربية والعلوم الإنسانية.  تأويل المعنى بين المطلق والمحدود قام محمد أركون بتوظيف آليات جديدة من أجل بناء معرفة معاصرة حول النص، وذلك بالاعتماد على المناهج الغربية الحديثة لفهم طبقات النص المقدس وتحقيق القراءة النقدية، وهكذا طبق التحليل الألسني، والتحليل السيميائي الدلالي، والتحليل التاريخي، والتحليل الاجتماعي أو السوسيولوجي، والتحليل الانتروبولوجي، والتحليل الفلسفي، وعلى هذا النحو فتح المجال لولاده فكر تأويل جديد للظاهرة الدينية، ولكن من دون أن يعزلها أبدا عن الظواهر الأخرى المشكلة للواقع الاجتماعي، تاريخي، الكلي. والهدف عند أركون من كل هذه التحليلات المختلفة، والتي هي نتاج العلوم الانسانية والاجتماعية التي عرفتها أوروبا، هو إدراك معنى الظاهرة الدينية، وبالتحديد إدراك معنى النصوص المقدسة، وعلى رأسها القرآن الكريم، أي كيف يمكن القبض على المعنى؟ وهذا السؤال تترتب عنه إشكالات أخرى مهمة من مثل: هل يوجد معنى نهائي ومطلق في النص المقدس؟ هل بامكان العقل البشري، بمحدوديته ونقصه، الوصول الى القصد الإلهي في كماله وإطلاقه؟ ومن ثم ما هو دور الذات المؤولة في عملية التأويل؟ وهل يمكن تجاهل المؤول في تعاطيه مع النص؟ وهل للنص معنى موضوعي مستقل بمعزل عن تدخل الذات الواعية؟ وهكذا نلاحظ أن أركون سيوظف نظريات القراءة ومناهج التأويل المختلفة، من أجل قراءة القرآن قراءة جديدة، وفهم مرحلة النبوة، وكيفية تشكل المصحف، وتشكل السيرة، أو بالأحرى كل التجربة الحضارية الثقافية العربية الاسلامية، بامكانها أن تحدث القطيعة مع التأويلات الأيديولوجية المسيسة للاسلام. وأن تتجاوز القراءة الدوغمائية السطحية للنص، وفتحه على عديد الاحتمالات، ومن ثم المرور من التأويل الرسمي الأوحد الى صراع التأويلات، وتعدد التفسيرات، وفضح ادعاءات الفقهاء بكونهم قادرين على معرفة وفهم كلام الله بشكل متطابق مع مقاصده النهائية والكلية، وذلك يبرر لهم اضفاء القداسة على اجتهاداتهم وبلورتها في شكل أحكام شرعية.  منهج محمد أركون الأركيولوجي التفكيكي مارس اركون الحفر الاركيولوجي على التراث الاسلامي، لمعرفة حجم المسافة الموجودة بين النص المؤسس، وهو النص القرآني، وبين النصوص التفسيرية المختلفة المنتجة من قبل المسلمين، وهي مسافة غير معترف بها من قبلهم، لضمور الوعي التاريخي لديهم، الذي ترك مكانه للوعي الاسطوري واللاتاريخي. يضاف الى ذلك منهج التفكيك، وهو منهج ارتبط "بجاك دريدا" الذي أعاد بلورته بعد ان استعاره من "هايدغر"، وحور فيه عن طريق تطعيمه بأدوات الألسونيات الحديثة ومنهجياتها، ثم راح يطبقه على الميتافيزيقا الغربية، بدء من افلاطون وانتهاء بهايدغر، وساهم جهده في تبيان الصفة النسبية جدا للميتافيزيقا، ومع "فوكو" عرف التفكيك توسعا، حيث شمل قطاعات واسعة من المجتمع، وعن طريق التفكيك يتمكن الباحث من معرفة الأجزاء المطموسة في الخطاب، أو في أي عمل ثقافي او حضاري، ثم يعرف كيف تمارس هذه الأجزاء دورها ضمن البنية العامة للفكر، ومن ثم معرفة كيف يمكن ان يقوم بنقد شروط انتاج ثقافة معينة، والوظائف التي تملؤها هذه الثقافة. ويعترف اركون، أن محاولات تطبيق تقنيات التفكيك الحديثة على النصوص التأسيسية، والخطابات التفسيرية، التي تشكل الساحة الدوغمائية للفكر الاسلامي، حتى يومنا هذا لا تزال خجولة جدا ونادرة. وغرض اركون من استخدام التفكيك والحفر الاركيولوجي، كآليات تأويلية في اعادة قراءة القرآن، هو القطع مع نظرية المعنى الميتافيزيقية، فالنظرية التأويلية الحديثة، حولت السؤال الفلسفي التقليدي: كيف يجب أن يكون المعنى حتى أفهمه؟ الى سؤال جديد: كيف أفهم حتى يكون المعنى؟ وهو تحويل من بنية المعنى الى بنية الفهم، من المعنى المعطى من طرف الله في الدين، أو من طرف العقل الأول في الفلسفة، الى المعنى المنبثق عن الذات، لذلك تمكن العديد من المفكرين من بلورة مفهوم "افق الانتظار"، الذي تقوم الذات من خلاله بتحيين المعنى، أساسه هو أن نفهم، يعني دائما أن نطبق المعنى على وضعيتنا الراهنة كما قال غدامير.  مركزية الإنسان في تأويل المعنى عند أركون يرى أركون أن المعنى لم يعد يتأسس بعيدا عن الانسان في صورته المطلقة، بل أصبح من إنتاج الانسان، فهو صناعة بشرية، فالانسان هو الذي ينتجه ويثمنه ويعيش عليه، أي أنه يتمفصل مع فاعلية الفهم، الفهم الذي يشكل جوهر التأويل، وهذا عكس الفكر الديني، لأن الفكر الديني يجعل قائل النص، أي الله، هو محور اهتمامه، في حين يجعل الفكر التأويلي الانسان المتلقي، بكل ما يحيط به من واقع اجتماعي وتاريخي، هو المحور ونقطة الانطلاق. وعليه فإن تجاوز أزمة المعنى، المكرس في نظرية المعنى الميتافيزيقية الكلاسيكية، لا يتحقق الا من خلال العهد التأويلي للعقل، والذي يقوم على اعطاء الفهم الأولوية في إنتاج المعنى، فالمعنى ليس جوهرا إلاهيا بقدر ما هو فهم بشري، تاريخي، نسبي ومتغير. والتأويل الذي يمارسه اركون على النص القرآني، هو أقرب الى التأويل اللامتناهي، فهو يرفض التأويل المطابق الذي يقوم على الإقرار بوجود دلالة أحادية، ويعتبرها دلالة أرثوذكسية، ويقول بتعدد الدلالات والمعاني تعددا غير محدود، فمن أهم خصائص القرآن هي قابلية أن يعني، أي يعطي معنى ما باستمرار، ويولد هذا المعنى، ولو أننا استبدلنا بذلك معنى نهائيا ناجزا أو موضوعيا، لكان فعلنا ككل تلك القراءات العديدة الممارسة سابقا والمبجلة.  القراءة متعددة الأبعاد للنص عند أركون يكشف التأويل الانتروبولوجي للنصوص عند اركون عن الصراع بين الثقافة الشفهية والثقافة العالمة، حيث ترتبط الثقافة الشفهية بالعامة من الناس وبالفئات الاجتماعية الهامشية، أما الثقافة المكتوبة والعالمة فانها ترتبط بالسلطة وبالفئات الاجتماعية ذات الامتياز والحظوة، كما أن الكشف عن اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه والمغيب والمهمش والمسكوت عنه ... إلخ، يقع في صميم معرفة أطراف الصراع الاجتماعي، ونفس الأمر أيضا بالنسبة للمقدس والمتعالي، وكيف يتم الارتقاء ببعض الفئات الاجتماعية فتصبح هي الفئات الناجية والصالحة، مقابل فئات اجتماعية أخرى تقدم على أساس أنها نموذج للامحراف والضلالة. كما أن معارك التأويل تكشف عن الصراع الاجتماعي بين قوى التقدم وقوى المحافظة في كل مجتمع، فهي ليست معارك نظرية لغوية عن صدق هذا التأويل أو صحة هذا التفسير، بل هي صراع مصالح، ولذلك نجد المدافعين عن حرية التأويل عادة ما يكونون من دعاة التغيير والتقدم، سواء في الحضارة العربية أو الحضارة الغربية، أما المدافعين عن أحادية التأويل فهم من دعاة الثبات وعدم التغير.  المبحث الثالث : منهج التأويل عند نصر حامد أبو زيد (د. خالد، 2013) نصر حامد أبو زيد أكاديمي مصري، ولد سنة 1943م وتوفي سنة 2010م، وباحث متخصص في الدراسات الإسلامية ومتخصص في فقه اللغة العربية والعلوم الإنسانية.  كيف يجعل التأويل النص حيا ؟ يرى نصر حامد ابو زيد ان التأويل هو المتسق مع لغه الوحي، وذلك انه وان كانت الظاهره القرانيه متولده اساسا من التاريخ لكنها تعيد انتاج دلالات اكثر دواما، وتلك الدلالات هي التي انبنت عليها الظاهره الاسلاميه، مؤكدا ان لغه القران الكريم مجازيه تاريخيه. كما يقرر نصر ابو زيد ان التاويل هو الذي يبقي النص حيا، وهذا بدوره يؤكد اهميه التاويل، خصوصا وهو يقر ان الحضاره الاسلاميه حضاره نص، ومن ثم فاذا كانت الحضاره الاسلاميه تتركز حول نص بعينه، يمثل احد محاورها الاساسيه، فلا شك ان التاويل وهو الوجه الآخر للنص، يمثل آليه هامه من آليات الثقافه والحضاره في انتاج المعرفه. كثيرا ما يلح نصر ابو زيد على جدليه النص والواقع، و يشير الى ان الوقوف مع الظاهر كفيل بان يوقع في الحيره، جراء بعض الاشكالات التي تثيرها النصوص في علاقتها بهذا الواقع. ويؤكد ان التجديد هو اعاده تفسير التراث طبقا لحاجات العصر، كما ان مهمه التاويل في تاريخ الفكر الاسلامي دائما ازاله تعارضات دلاليه بين بعض اجزاء النص.  نصر أبو زيد متفقا مع محمد أركون يثني نصر ابو زيد على تعامل اركون مع الوحي، مشيرا الى ان علينا ان نستعيد من جديد دراسه كل مسأله الوحي الى معطيات جديده. ويقول منه من المؤكد ان قراءه اركون العميقه للتراث الاسلامي التأسيسيه، قد مكنته من وضع يده على أهم آليات اشتغال اللغه الدينيه، كتحول الآني والتاريخي الى مجال المطلق، باستخدام المجاز وعمليات الحذف والاضافه، وما يفضي اليه كل ذلك من ارتهان العالم كله لدائره المطلق الأبدي.  النص بين تباين العقول وتعدد المعاني وفي تاكيده استيعاب النص للقراءات المختلفه التي يمليها تباين العقول، بما ان المعنى لا ثبات له، اضافه الى انه مظهر من مظاهر اتساع الدائره التاويليه، والتي تجعل النص حيا في تعاطيه مع الكل. يقول: لقد قام الامام علي بن ابي طالب، في رده المعروف والمشهور على الخوارج حين قالوا "لا حكما الا لله"، بتأسيس هذا الوعي الذي نحاول شرحه، فقال "القران بين دفتين المصحف لا ينطق وانما يتكلم به الرجال"، المهم جدا والخطير والمغيب تماما في الخطاب الديني المعاصر، أن عقل الرجال ومستوى معرفتهم وفهمهم هو الذي يحدد الدلالات ويصوغ المعنى. وفيما يتعلق بهذا الامر كذلك نراه عند دراسته لابن عربي يقول: ولعلنا لاحظنا كيف يربط ابن عربي بين آيات كثيرة من القران في سياق تأويله لكلمه واحدة، كما يربط بين القرآن والحديث النبوي، في حركه دائمه تعطي للنصوص معاني محدده في سياق خاص، وهذه المعاني تتغير في سياق آخر، مما يؤكد ما أشرنا إليه من أن المعنى في القرآن ليس معطا ثابتا محددا سلفا، بل هو إن شئنا الدقة، معنى في حالة من التوتر الدائم، تتوقف على سياق المفسر، وحاله من جهة، وعلى العلاقات التي يمكن ان يقيمها بين الآيات والأحاديث من جهه أخرى.  المبحث الرابع: منهج طه عبد الرحمان النقدي للهرمنيوطيقا (كيشانه، 2020) طه عبد الرحمان، فيلسوف مغربي، ولد سنة 1944م، متخصص في المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق. يعد أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين في مجال التداول الإسلامي العربي منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين.  جوهر نقده للهرمنيوطيقا من أهم أفكار طه عبد الرحمان محاولته تصحيح المسار الذي سارت عليه الهرمنيوطيقا في العامل العربي، وأهم هذه النقاط الجوهرية في الهرمنيوطيقا التي تحتاج إلى إعادة نظر بحسبه ،كونها تنظر للنص القرآني كاما لو كان نصا إنساني ، فتعمل فيه ما شاءت من أدوات النقد، وهذا من الخطأ الكبير في نظره، ذلك أن النص القرآين له قدسيته وقدسية مصدره وهو رب العالمين، فالقراءة الحداثية أو الهرمنيوطيقا هي تفسيرات لآيات القرآن، تخرج عن الصفة الاعتقادية، وتتصف بضدها وهو الانتقاد، والقراءات الحداثية لا تريد أن تحصل اعتقادا، من الآيات القرآنية، وإنّما تريد أن تمارس نقدها على هذه الآيات.  نقده للهرومنيوطيقيين العرب الأسس الثالثة التي ينتقد من خلالها طه عبد الرحمن الهرومنيوطيقيين العرب وهي ذاتها الأسس الثالثة التي اعتمدت عليها الهرمنيوطيقا في الغرب. الهدف النقدي الآلية التنسيقية العمليات الممنهجة و يرى طه عبد الرحمان أن الهرمنيوطيقا في جوهرها ـ- خاصة إذا نظرنا إليها نظرة متوازنة - فكرة ملحة في الفرتة المعارصة في باب تفسير أو تأويل الخطاب البشري، إذ من الممكن أن نجد لها صدى طيب في المجالات الآتية: فهم النصوص الدينية، وليس نقدها فهم الخطابات الفكرية وتفسريها تأويل الخطاب الصوفي البلاغة العربية تأويل الخطابات التجديدية  طه عبد الرحمان ناقدا لمحمد أركون (قاسمي، 2019) يقول توفيق قاسمي : يندرج موقف طه عبد الرحمان،من قراءات الحداثيين المسلمين للنص القرآني، ضمن موقف شمولي من الحداثة الغربية بصفة عامة، التي استبدلت المقدس الديني بمقدس علمي؛ تجسده "النزعة العلموية"، من حيث هي نزعة مغرقة في الإيمان بالعلم والمنفعة، ورافضة للتوجهات الأخلاقية غير النفعية. ولم يستند الحداثيون في محاولاتهم التأويلية إلى مرجعية واحدة، بل استمد كل منهم مرجعيته بحسب اختصاصه المعرفي ووفقا لتكوينه الثقافي والتاريخي. يذكر منهم طه عبد الرحمان في كتابه "روح الحداثة" محمد أركون، يقول طه عبد الرحمان: "إذا تقرّر أن الوجه الذي تحقق به قراءة القرآن حداثَتِيَتها هو أن تكون قراءة انتقادية، لا اعتقادية، فقد وجدت بين أظهرنا محاولات لقراءة بعض الآيات القرآنية على هذا المقتضى الانتقادي؛ ونذكر منها، على وجه الخصوص، قراءة "محمد أركون"."أي أن منهج أركون في قراءة القرآن قائم على نظرة تأويلية نقدية للنص القرآني. ويبدو واضحا، أن التأويل مع القدامى لا يكون إلا في علاقة بالقرآن والسنة، أما معنى التأويل كما يتبناه الحداثيون، بما فيهم محمد أركون، فمصادره مغايرة تماما؛ إذ ينطلقون من "الهرمونتيقا"، كما تأسست في الفلسفات الغربية، التي ترى أن المفسر حرّ في التأويل، فهي تنطلق من مقولتين: أولهما "موت الكاتب"، وثانيهما "النص منظومة رموز"، وتصبح العلاقة التأويلية ثنائية: قارئ ونصّ وليست ثلاثية: نص وكاتب وقارئ. ومعنى ذلك أن التأويلية إقرار بقدرة التأويل على التحول بالنص من الوحدة إلى الكثرة. إذ ينطلق القرّاء من نفس النص، ولكنهم يبلغون معاني مختلفة، وكثيرا ما تكون متناقضة. وهذا التصور مناقض تماما للمناهج التفسيرية التي سبق للمسلمين اعتمادها، التي تفترض في المفسِّر شروطا، وفي التفسير قواعد.  الخاتمة: يرى غادامير أن إحدى نتائج فن التأويل الفلسفي، هي أن الفهم لا يمكنه أن يتحقق، إلا اذا استعمل الفرد الذي يريد أن يفهم، افتراضاته المسبقة الخاصة، حيث تنتمي المساهمة الإبداعية للمؤول إلى دلالة الفهم نفسها، ولا يعتبر هذا الطابع الخاص مبرزا للتحيزات والميولات الذاتية، لأن النص الذي نتوخى فهمه يصبح في كل مرة المعيار أو النموذج الوحيد كلما تركناه ينكشف بذاته. كما يقر بكون المسافة الضرورية بين العصور والثقافات، والطبقات والعرقيات وحتى الأشخاص، هي عناصر عابرة للذوات، تنعش الفهم وتمنحه القوة والجهد الفكري، حيث يمكننا وصف هذه الظاهرة بقولنا أن المؤول والنص يمتلك كل واحد منهما افقه الخاص، وأن الفهم يمثل إنصهار هذه الآفاق. وعند أركون، من أجل تجاوز القراءة ذات البعد الواحد للنص وللتراث الاسلامي، فانه يستخدم كل العلوم الانسانية والاجتماعية المتاحه له، من فلسفة الى الانتروبولوجيا، الى علم النفس الى التاريخ، الى نظريات القراءة المختلفة الى اللسانيات. لان قرائته تعي منذ البدء انها تأويل، فهي لا تركز على قائل النص فقط، أي المرسل وإنما تركز ايضا على المتلقي أو جمهور المتلقين، وتعطي للمتلقي الحرية الكامله في فهم ما يرغب في فهمه من موضوع التأويل. والنص عند نصر ابو زيد قابل للتأويلات المختلفه، ومن ثم فإنه يؤكد أن جدلية النص مع الواقع، إضافه الى جدلية القارئ مع النص، قد تفرض تحولا في قراءه نص ما ومفهومه. فنراه يؤكد ان هذا التحول نوع من تطوير دلالة النص، باتساع افق القراءة، وليس ذلك إلا أثر تطور حركة الواقع في قراءة النصوص، وفي اعادة تأويلها، وهذا بدوره يشير الى أن تأويل النصوص لا يتم إلا من خلال القارئ والمفسر، أي من خلال جدل العقل الانساني مع النص. ونجد طه عبد الرحمان يكثر من ذكر محمد أركون في كتبه ، وهو ينقد عمليات تقليد الغربيين في طرق تعاملهم مع نصوصهم الدينية وتطبيق ذلك على القرآن، فالقراءات الحداثية تاريخية ومرتبطة بالواقع الذي يعيشه القارئ الحداثي، وقد اهتمت الكثير من الدراسات، على ما فيها من تنوع، بمختلف القضايا التي انشغل بها أركون طيلة مسيرته العلمية، بما فيها الحديث عن قراءته التأويلية للقرآن الكريم.

النص الديني وإشكالية التأويل
من غادامير إلى أركون
بين دعم نصر حامد أبو زيد ونقد طه عبد الرحمان


المقدمة:

يرى توفيق سعيد في كتابه "ماهية اللغة وفلسفة التأويل"، أن التأويل أخذ منحنى فلسفيّا يتبع النزوع اللغويّ نحو التفلسف، الأمر الذي أخضع المسار التاريخيّ للتأويل لتحوّلات مفهوميّة هائلة بَدءًا من الحكمة اليونانيّة التي اشتقّ من لغتها لفظ هرمنوطيقا (التأويل)، مرورًا بالتراث الفلسفيّ الإسلاميّ والمسيحيّ الذي شهد محاولات للتعمّق في فهم النصوص الدينيّة وعقلنتها، وصولاً إلى عصرنا الراهن، حيث شكّل التأويل الفلسفيّ، من جهة، امتدادًا للتأويل التقليديّ بوصفه ذروة التطوّر التأويليّ من خلال إقحامه في مجالات المعرفة الواسعة، ومن جهة ثانية، شكّل انقلابًا عليه وخروجًا على ماهيّته بوصفه فلسفة تتطلّع إلى بلورة رؤية شاملة إزاء الكون والوجود.
بدورنا في هذا البحث المقتضب، نحاول تتبع مسار تطور التأويل كمصطلح وكعلم، دليلنا في ذلك أحد قامات هذا المجال في القرن العشرين ممثلا في الفيلسوف الألماني غادامير، كما نعرج في إطلالة سريعة على تطبيقات هذه المناهج الحديثة على تراثنا الإسلامي في محاولات الفلاسفة والمفكرين من الجزائري محمد أركون والمصري نصر حامد أبو زيد إلى المغربي طه عبد الرحمان.

المبحث الأول: أصول التأويل عند هانس جورج غادامير ( غادامير، 2006)
هانز جورج جادامير، فيلسوف ألماني ولد سنة 1900، اشتهر بعمله الشهير الحقيقة والمنهج ، وأيضاً بتجديده في النظرية التفسيرية الهرمنيوطيقا، توفي سنة 2002.

جذور مسطلح التأويل قبل العصر الوسيط
تدل الهيرمينوطيقا على ممارسة فكرية، آلية والفنية، وهو ما يستحضره تشكيل اللفظ الذي يدل على التقنية، حيث يتخذ الفن هنا دلالة الإعلان والتراث والتفسير والتأويل، ويشتمل طبعا على فن الفهم كأساس ودعامة له، لكننا نجد في الاستعمال القديم للفظ نوعا من الالتباس، فقد اعتبر "هرمس" رسول الآلهة الى البشر، كما أن الأوصاف التي وصفه بها "هوميروس" تصفه بكونه يبلغ حرفيا ما وكل بتبليغه.
كما نجد في الاستعمال الفلسفي، أن نشاط المؤول هو بالضبط ترجمة وايضاح العبارات الغريبة والمبهمة الى لغة مفهومة من طرف الجميع، فهو يقتضي الإدراك والإلمام الكامل باللغة الأجنبية، والأكثر من ذلك إدراك المقاصد والمعنى الحقيقي للعبارة المنطوقة.
من الملاحظ أن "أفلاطون" لا يربط هذا اللفظ بأي تعبير عن الأفكار، وإنما لمعرفة (الرسول) الذي له خاصية الأمر والإذعان، كذلك التقارب بين فن التأويل والفن التكهني الذي هو فن تبليغ الإراده الإلهية، حيث يقف جنبا الى جنب مع فن إدراك هذه الإرادة أو التكهن بالمستقبل انطلاقا من علامات معينة،
كما نلاحظ أن "أرسطو" لا يفكر إلا في المعنى المنطقي للعبارة، وهكذا تطور المعنى المعرفي للتأويل (هيرمينيوس) في الهيلينية المتأخرة، ليدل على التفسير العلمي أو المؤول (المترجم)، لكن الأصل المقدس القديم عمل باستمرار على تبيان الهيرمينوطيقا باعتبارها فنا أو آلية الفهم الذي يسمح بالكشف عن مسائل مبهمة ، في الوقت ذاته تدل على الفن بحيث تشكل الحكم والأقوال المأثورة المرجعية الهامة.

حركة التأويل في العصر المسيحي الأول
تدل الهيرمينوطيقا في علم اللاهوت الثيولوجي، على فن تأويل وترجمة الكتاب المقدس والأسفار المقدسة بدقة، فهو في الواقع مشروع قديم النشأة وأداره آباء الكنيسة بوعي منهجي دقيق، وعلى وجه الخصوص عند القديس "أوغسطين" في مؤلفه (العقيدة المسيحية)، فنشاط العقيدة المسيحية قد أملاه التوتر الذي كان بين التاريخ الخاص للشعب اليهودي، والذي أوله العهد القديم على أساس كونه تاريخ الخلاص، وبين الإعلان الخلاصي للسيد المسيح في العهد الجديد، فقد استعمل في هذه الفترة التفكير المنهجي قصد إيجاد الحلول لهذه المسائل استلهاما من تعاليم وتصورات الافلاطونية المحدثة،
تلقت الهيرمينوطيقا دفعا جديدا بالرجوع الى حرفية الكتابات المقدسة، كما مارسها الإصلاحيون من البروتستانت بدخولهم في جدال مع عقيدة الكنيسة، وكيف عالجت هذه الأخيرة النص المقدس وفقا لطريقة الأناجيل الأربعة، وعليه رفضت الطريقة الرمزية على وجه الخصوص، أو تم على الأقل تحديد وحصر الفهم الرمزي في الحالات التي تقتضيها صراحة دلالة الأمثال، كأمثال المسيح.
سعى فن التأويل الى الرجوع الى المصادر الأصلية والبدايات الأولى، قصد الحصول على فهم جديد للمعنى الذي ظل محل تحريف وإفساد، سببه الاعوجاجات والتشويهات والإستعمالات السيئة وغير الوجيهة، كما هو الحال بالنسبة للإنجيل مع سلطة الكنيسة، وللآداب القديمة مع اللاتينية البربرية، وللقوانين الرومانية مع الأحكام القضائية الجهوية.
لم يكن يهدف النشاط الجديد للفن التأويل فقط الى الفهم الدقيق، وإنما كان يسعى خصوصا الى الكشف عن قاعدة نموذجية، سواء تعلق الأمر بتبليغ رسالة إلآهية أو تفسير هاتف إلهي أو صياغة أحكام شرعية قسرية.

تشكل مفهوم الهيرمينوطيقا في عصر النهضة
لقد ظهر استعمال كلمة التأويل، باعتبارها خاصية العصور الحديثة، تماما في الفترة نفسها التي تشكل فيها المفهوم الحديث للعلم والمنهج، منذ ذلك الحين أصبح الوعي المنهجي مسألة لا تنفك عن هذا المفهوم الحديث، حيث كان أول ظهور لمسطلح هيرمينوطيقا في عنوان إحدى الكتب عند "دانهاور" سنة 1654، و بدأ منذ ذلك الحين تمييز التأويل اللاهوتي عن التأويل القانوني.
حاول التأويل اللاهوتي في بداية حركة الأنوار، إلتماس قواعد خاصة للفهم، فحظي النقد التاريخي للإنجيل بمصداقية متميزة، واعتبرت الرسالة اللاهوتية السياسية "لسبينوزا" الحدث الهام والرئيسي حينها، فنقده لمفهوم المعجزة خصوصا، وجد تبريره في طموح العقل بعدم الاعتراف إلا بما هو معقول، أي ممكن وجائز، فأصبح ينظر الى كل ما يصطدم بالعقل في الكتابات المقدسة بحاجة إلى ايجاد تأويل وتفسير طبيعي له، سعيا لجعل التأويل الاهوتي أمر مدرك ومفهوم.

تأسس علم التأويل في العصر الحديث
يعتبر "شلايرماخر" الأول الذي من حرر فن التأويل، كمذهب عام وعالمي في فهم التاويل، من كل عناصره العقائدية في تطبيقاتها الانجيلية، على وجه الخصوص، لقد حولت نظريتة التأويلية، علماوية الثيولوجيا، عندما عارضت فيولوجيا الايحاء أو الالهام، بمناقشتها إمكانيه التحقق من إدراك الكتابات المقدسة باستعمال أدوات تفسير النصوص والثيولوجيا التاريخية.
يمثل تأسيس الفهم عند شلايرماخر على قاعدة الحواري والتفاهم المشترك بين الافراد، استقصاء لأسس وقواعد فن التأويل، كما يمكن من تشييد منظومة العلوم على قاعدة تأويلية، لقد أصبح فن التأويل قاعدة لكل العلوم الإنسانية التاريخية، وليس فقط اللاهوتية، وعلى يد شلايرماخر أصبح التأويل السيكولوجي النفسي، القاعدة الأساسية للعلوم الانسانية.
ثم يبتدئ عهد جديد في التفكير التأويلي مع "بولتمان" بتقاطعه مع التاريخانية الراديكالية وتأثره بالاهوت الجدلي، فقد أسس وساطة فعلية بين التفسير التاريخي والتفسير العقائدي، والتي ستفضي لاحقا الى قاعدة (الا أسطرة)، فلقد بحث بولتمان عن حل إيجابي يمكن تبريره منهجيا، دون أن يتخلى عن مكتسبات الثيولوجيا التاريخية.
ثم تقدم الفلسفة الوجودية في نظر "هايدغر" كما بينها في مؤلفاته، موقفا محايدا وانثروبولوجيا، يزود فهم الذات للإعتقاد بأساس انطولوجي ، حيث أسس هايدغر مفهوم الهيرمينوطيقا، مشكلا بذلك الماهيات الفينومينولوجية عند "هوسرل"، ثم انتهى الى مفهوم التأويل الذي تم تحديد وتطوير دلالته النظرية، على يد "نيتشه"، حيث يستند نشاط التطور هذا، على الشك ازاء اثبات الوعي، كما يقول نيتشه صراحه:
ينبغي الشك أفضل من ديكارت
حيث ينتج هذا الشك عند نيتشه، عن تعديل دلالة الحقيقة، بحيث يصبح سياق التأويل أحد أشكال إرادة القوة ويحصل بكذلك على أهميته الأنطولوجية.

المبحث الثاني : التأويل عند محمد أركون والمناهج الغربية (كيحل، 2011)
محمد أركون، فيلسوف ومفكر جزائري ، ولد سمة 1928م وتوفي سنة 2010م، باحث أكاديمي ومؤرخ متخصص في الدراسات الإسلامية و اللغة العربية والعلوم الإنسانية.

تأويل المعنى بين المطلق والمحدود
قام محمد أركون بتوظيف آليات جديدة من أجل بناء معرفة معاصرة حول النص، وذلك بالاعتماد على المناهج الغربية الحديثة لفهم طبقات النص المقدس وتحقيق القراءة النقدية، وهكذا طبق التحليل الألسني، والتحليل السيميائي الدلالي، والتحليل التاريخي، والتحليل الاجتماعي أو السوسيولوجي، والتحليل الانتروبولوجي، والتحليل الفلسفي، وعلى هذا النحو فتح المجال لولاده فكر تأويل جديد للظاهرة الدينية، ولكن من دون أن يعزلها أبدا عن الظواهر الأخرى المشكلة للواقع الاجتماعي، تاريخي، الكلي.
والهدف عند أركون من كل هذه التحليلات المختلفة، والتي هي نتاج العلوم الانسانية والاجتماعية التي عرفتها أوروبا، هو إدراك معنى الظاهرة الدينية، وبالتحديد إدراك معنى النصوص المقدسة، وعلى رأسها القرآن الكريم، أي كيف يمكن القبض على المعنى؟
وهذا السؤال تترتب عنه إشكالات أخرى مهمة من مثل:
هل يوجد معنى نهائي ومطلق في النص المقدس؟
هل بامكان العقل البشري، بمحدوديته ونقصه، الوصول الى القصد الإلهي في كماله وإطلاقه؟
ومن ثم ما هو دور الذات المؤولة في عملية التأويل؟
وهل يمكن تجاهل المؤول في تعاطيه مع النص؟
وهل للنص معنى موضوعي مستقل بمعزل عن تدخل الذات الواعية؟
وهكذا نلاحظ أن أركون سيوظف نظريات القراءة ومناهج التأويل المختلفة، من أجل قراءة القرآن قراءة جديدة، وفهم مرحلة النبوة، وكيفية تشكل المصحف، وتشكل السيرة، أو بالأحرى كل التجربة الحضارية الثقافية العربية الاسلامية، بامكانها أن تحدث القطيعة مع التأويلات الأيديولوجية المسيسة للاسلام.
وأن تتجاوز القراءة الدوغمائية السطحية للنص، وفتحه على عديد الاحتمالات، ومن ثم المرور من التأويل الرسمي الأوحد الى صراع التأويلات، وتعدد التفسيرات، وفضح ادعاءات الفقهاء بكونهم قادرين على معرفة وفهم كلام الله بشكل متطابق مع مقاصده النهائية والكلية، وذلك يبرر لهم اضفاء القداسة على اجتهاداتهم وبلورتها في شكل أحكام شرعية.

منهج محمد أركون الأركيولوجي التفكيكي
مارس اركون الحفر الاركيولوجي على التراث الاسلامي، لمعرفة حجم المسافة الموجودة بين النص المؤسس، وهو النص القرآني، وبين النصوص التفسيرية المختلفة المنتجة من قبل المسلمين، وهي مسافة غير معترف بها من قبلهم، لضمور الوعي التاريخي لديهم، الذي ترك مكانه للوعي الاسطوري واللاتاريخي.
يضاف الى ذلك منهج التفكيك، وهو منهج ارتبط "بجاك دريدا" الذي أعاد بلورته بعد ان استعاره من "هايدغر"، وحور فيه عن طريق تطعيمه بأدوات الألسونيات الحديثة ومنهجياتها، ثم راح يطبقه على الميتافيزيقا الغربية، بدء من افلاطون وانتهاء بهايدغر، وساهم جهده في تبيان الصفة النسبية جدا للميتافيزيقا، ومع "فوكو" عرف التفكيك توسعا، حيث شمل قطاعات واسعة من المجتمع، وعن طريق التفكيك يتمكن الباحث من معرفة الأجزاء المطموسة في الخطاب، أو في أي عمل ثقافي او حضاري، ثم يعرف كيف تمارس هذه الأجزاء دورها ضمن البنية العامة للفكر، ومن ثم معرفة كيف يمكن ان يقوم بنقد شروط انتاج ثقافة معينة، والوظائف التي تملؤها هذه الثقافة.
ويعترف اركون، أن محاولات تطبيق تقنيات التفكيك الحديثة على النصوص التأسيسية، والخطابات التفسيرية، التي تشكل الساحة الدوغمائية للفكر الاسلامي، حتى يومنا هذا لا تزال خجولة جدا ونادرة.
وغرض اركون من استخدام التفكيك والحفر الاركيولوجي، كآليات تأويلية في اعادة قراءة القرآن، هو القطع مع نظرية المعنى الميتافيزيقية، فالنظرية التأويلية الحديثة، حولت السؤال الفلسفي التقليدي:
كيف يجب أن يكون المعنى حتى أفهمه؟
الى سؤال جديد: كيف أفهم حتى يكون المعنى؟
وهو تحويل من بنية المعنى الى بنية الفهم، من المعنى المعطى من طرف الله في الدين، أو من طرف العقل الأول في الفلسفة، الى المعنى المنبثق عن الذات، لذلك تمكن العديد من المفكرين من بلورة مفهوم "افق الانتظار"، الذي تقوم الذات من خلاله بتحيين المعنى، أساسه هو أن نفهم، يعني دائما أن نطبق المعنى على وضعيتنا الراهنة كما قال غدامير.

مركزية الإنسان في تأويل المعنى عند أركون
يرى أركون أن المعنى لم يعد يتأسس بعيدا عن الانسان في صورته المطلقة، بل أصبح من إنتاج الانسان، فهو صناعة بشرية، فالانسان هو الذي ينتجه ويثمنه ويعيش عليه، أي أنه يتمفصل مع فاعلية الفهم، الفهم الذي يشكل جوهر التأويل، وهذا عكس الفكر الديني، لأن الفكر الديني يجعل قائل النص، أي الله، هو محور اهتمامه، في حين يجعل الفكر التأويلي الانسان المتلقي، بكل ما يحيط به من واقع اجتماعي وتاريخي، هو المحور ونقطة الانطلاق.
وعليه فإن تجاوز أزمة المعنى، المكرس في نظرية المعنى الميتافيزيقية الكلاسيكية، لا يتحقق الا من خلال العهد التأويلي للعقل، والذي يقوم على اعطاء الفهم الأولوية في إنتاج المعنى، فالمعنى ليس جوهرا إلاهيا بقدر ما هو فهم بشري، تاريخي، نسبي ومتغير.
والتأويل الذي يمارسه اركون على النص القرآني، هو أقرب الى التأويل اللامتناهي، فهو يرفض التأويل المطابق الذي يقوم على الإقرار بوجود دلالة أحادية، ويعتبرها دلالة أرثوذكسية، ويقول بتعدد الدلالات والمعاني تعددا غير محدود، فمن أهم خصائص القرآن هي قابلية أن يعني، أي يعطي معنى ما باستمرار، ويولد هذا المعنى، ولو أننا استبدلنا بذلك معنى نهائيا ناجزا أو موضوعيا، لكان فعلنا ككل تلك القراءات العديدة الممارسة سابقا والمبجلة.

القراءة متعددة الأبعاد للنص عند أركون
يكشف التأويل الانتروبولوجي للنصوص عند اركون عن الصراع بين الثقافة الشفهية والثقافة العالمة، حيث ترتبط الثقافة الشفهية بالعامة من الناس وبالفئات الاجتماعية الهامشية، أما الثقافة المكتوبة والعالمة فانها ترتبط بالسلطة وبالفئات الاجتماعية ذات الامتياز والحظوة،
كما أن الكشف عن اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه والمغيب والمهمش والمسكوت عنه ... إلخ، يقع في صميم معرفة أطراف الصراع الاجتماعي، ونفس الأمر أيضا بالنسبة للمقدس والمتعالي، وكيف يتم الارتقاء ببعض الفئات الاجتماعية فتصبح هي الفئات الناجية والصالحة، مقابل فئات اجتماعية أخرى تقدم على أساس أنها نموذج للامحراف والضلالة.
كما أن معارك التأويل تكشف عن الصراع الاجتماعي بين قوى التقدم وقوى المحافظة في كل مجتمع، فهي ليست معارك نظرية لغوية عن صدق هذا التأويل أو صحة هذا التفسير، بل هي صراع مصالح، ولذلك نجد المدافعين عن حرية التأويل عادة ما يكونون من دعاة التغيير والتقدم، سواء في الحضارة العربية أو الحضارة الغربية، أما المدافعين عن أحادية التأويل فهم من دعاة الثبات وعدم التغير.

المبحث الثالث : منهج التأويل عند نصر حامد أبو زيد (د. خالد، 2013)
نصر حامد أبو زيد أكاديمي مصري، ولد سنة 1943م وتوفي سنة 2010م، وباحث متخصص في الدراسات الإسلامية ومتخصص في فقه اللغة العربية والعلوم الإنسانية.

كيف يجعل التأويل النص حيا ؟
يرى نصر حامد ابو زيد ان التأويل هو المتسق مع لغه الوحي، وذلك انه وان كانت الظاهره القرانيه متولده اساسا من التاريخ لكنها تعيد انتاج دلالات اكثر دواما، وتلك الدلالات هي التي انبنت عليها الظاهره الاسلاميه، مؤكدا ان لغه القران الكريم مجازيه تاريخيه.
كما يقرر نصر ابو زيد ان التاويل هو الذي يبقي النص حيا، وهذا بدوره يؤكد اهميه التاويل، خصوصا وهو يقر ان الحضاره الاسلاميه حضاره نص، ومن ثم فاذا كانت الحضاره الاسلاميه تتركز حول نص بعينه، يمثل احد محاورها الاساسيه، فلا شك ان التاويل وهو الوجه الآخر للنص، يمثل آليه هامه من آليات الثقافه والحضاره في انتاج المعرفه.
كثيرا ما يلح نصر ابو زيد على جدليه النص والواقع، و يشير الى ان الوقوف مع الظاهر كفيل بان يوقع في الحيره، جراء بعض الاشكالات التي تثيرها النصوص في علاقتها بهذا الواقع.
ويؤكد ان التجديد هو اعاده تفسير التراث طبقا لحاجات العصر، كما ان مهمه التاويل في تاريخ الفكر الاسلامي دائما ازاله تعارضات دلاليه بين بعض اجزاء النص.

نصر أبو زيد متفقا مع محمد أركون
يثني نصر ابو زيد على تعامل اركون مع الوحي، مشيرا الى ان علينا ان نستعيد من جديد دراسه كل مسأله الوحي الى معطيات جديده.
ويقول منه من المؤكد ان قراءه اركون العميقه للتراث الاسلامي التأسيسيه، قد مكنته من وضع يده على أهم آليات اشتغال اللغه الدينيه، كتحول الآني والتاريخي الى مجال المطلق، باستخدام المجاز وعمليات الحذف والاضافه، وما يفضي اليه كل ذلك من ارتهان العالم كله لدائره المطلق الأبدي.

النص بين تباين العقول وتعدد المعاني
وفي تاكيده استيعاب النص للقراءات المختلفه التي يمليها تباين العقول، بما ان المعنى لا ثبات له، اضافه الى انه مظهر من مظاهر اتساع الدائره التاويليه، والتي تجعل النص حيا في تعاطيه مع الكل.
يقول: لقد قام الامام علي بن ابي طالب، في رده المعروف والمشهور على الخوارج حين قالوا "لا حكما الا لله"، بتأسيس هذا الوعي الذي نحاول شرحه، فقال "القران بين دفتين المصحف لا ينطق وانما يتكلم به الرجال"، المهم جدا والخطير والمغيب تماما في الخطاب الديني المعاصر، أن عقل الرجال ومستوى معرفتهم وفهمهم هو الذي يحدد الدلالات ويصوغ المعنى.
وفيما يتعلق بهذا الامر كذلك نراه عند دراسته لابن عربي يقول: ولعلنا لاحظنا كيف يربط ابن عربي بين آيات كثيرة من القران في سياق تأويله لكلمه واحدة، كما يربط بين القرآن والحديث النبوي، في حركه دائمه تعطي للنصوص معاني محدده في سياق خاص، وهذه المعاني تتغير في سياق آخر، مما يؤكد ما أشرنا إليه من أن المعنى في القرآن ليس معطا ثابتا محددا سلفا، بل هو إن شئنا الدقة، معنى في حالة من التوتر الدائم، تتوقف على سياق المفسر، وحاله من جهة، وعلى العلاقات التي يمكن ان يقيمها بين الآيات والأحاديث من جهه أخرى.

المبحث الرابع: منهج طه عبد الرحمان النقدي للهرمنيوطيقا (كيشانه، 2020)
طه عبد الرحمان، فيلسوف مغربي، ولد سنة 1944م، متخصص في المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق. يعد أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين في مجال التداول الإسلامي العربي منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين.

جوهر نقده للهرمنيوطيقا
من أهم أفكار طه عبد الرحمان محاولته تصحيح المسار الذي سارت عليه الهرمنيوطيقا في العامل العربي،
وأهم هذه النقاط الجوهرية في الهرمنيوطيقا التي تحتاج إلى إعادة نظر بحسبه ،كونها تنظر للنص القرآني كاما لو كان نصا إنساني ، فتعمل فيه ما شاءت من أدوات النقد، وهذا من الخطأ الكبير في نظره، ذلك أن النص القرآين له قدسيته وقدسية مصدره وهو رب العالمين، فالقراءة الحداثية أو الهرمنيوطيقا هي تفسيرات لآيات القرآن، تخرج عن الصفة الاعتقادية، وتتصف بضدها وهو الانتقاد، والقراءات الحداثية لا تريد أن تحصل اعتقادا، من الآيات القرآنية، وإنّما تريد أن تمارس نقدها على هذه الآيات.

نقده للهرومنيوطيقيين العرب
الأسس الثالثة التي ينتقد من خلالها طه عبد الرحمن الهرومنيوطيقيين العرب وهي ذاتها الأسس الثالثة التي اعتمدت عليها الهرمنيوطيقا في الغرب.
الهدف النقدي
الآلية التنسيقية
العمليات الممنهجة
و يرى طه عبد الرحمان أن الهرمنيوطيقا في جوهرها ـ- خاصة إذا نظرنا إليها نظرة متوازنة - فكرة ملحة في الفرتة المعارصة في باب تفسير أو تأويل الخطاب البشري، إذ من الممكن أن نجد لها صدى طيب في المجالات الآتية:
فهم النصوص الدينية، وليس نقدها
فهم الخطابات الفكرية وتفسريها
تأويل الخطاب الصوفي
البلاغة العربية
تأويل الخطابات التجديدية

طه عبد الرحمان ناقدا لمحمد أركون (قاسمي، 2019)
يقول توفيق قاسمي : يندرج موقف طه عبد الرحمان،من قراءات الحداثيين المسلمين للنص القرآني، ضمن موقف شمولي من الحداثة الغربية بصفة عامة، التي استبدلت المقدس الديني بمقدس علمي؛ تجسده "النزعة العلموية"، من حيث هي نزعة مغرقة في الإيمان بالعلم والمنفعة، ورافضة للتوجهات الأخلاقية غير النفعية. ولم يستند الحداثيون في محاولاتهم التأويلية إلى مرجعية واحدة، بل استمد كل منهم مرجعيته بحسب اختصاصه المعرفي ووفقا لتكوينه الثقافي والتاريخي.
يذكر منهم طه عبد الرحمان في كتابه "روح الحداثة" محمد أركون، يقول طه عبد الرحمان: "إذا تقرّر أن الوجه الذي تحقق به قراءة القرآن حداثَتِيَتها هو أن تكون قراءة انتقادية، لا اعتقادية، فقد وجدت بين أظهرنا محاولات لقراءة بعض الآيات القرآنية على هذا المقتضى الانتقادي؛ ونذكر منها، على وجه الخصوص، قراءة "محمد أركون"."أي أن منهج أركون في قراءة القرآن قائم على نظرة تأويلية نقدية للنص القرآني.
ويبدو واضحا، أن التأويل مع القدامى لا يكون إلا في علاقة بالقرآن والسنة، أما معنى التأويل كما يتبناه الحداثيون، بما فيهم محمد أركون، فمصادره مغايرة تماما؛ إذ ينطلقون من "الهرمونتيقا"، كما تأسست في الفلسفات الغربية، التي ترى أن المفسر حرّ في التأويل، فهي تنطلق من مقولتين:
أولهما "موت الكاتب"،
وثانيهما "النص منظومة رموز"،
وتصبح العلاقة التأويلية ثنائية: قارئ ونصّ وليست ثلاثية: نص وكاتب وقارئ.
ومعنى ذلك أن التأويلية إقرار بقدرة التأويل على التحول بالنص من الوحدة إلى الكثرة. إذ ينطلق القرّاء من نفس النص، ولكنهم يبلغون معاني مختلفة، وكثيرا ما تكون متناقضة. وهذا التصور مناقض تماما للمناهج التفسيرية التي سبق للمسلمين اعتمادها، التي تفترض في المفسِّر شروطا، وفي التفسير قواعد.

الخاتمة:
يرى غادامير أن إحدى نتائج فن التأويل الفلسفي، هي أن الفهم لا يمكنه أن يتحقق، إلا اذا استعمل الفرد الذي يريد أن يفهم، افتراضاته المسبقة الخاصة، حيث تنتمي المساهمة الإبداعية للمؤول إلى دلالة الفهم نفسها، ولا يعتبر هذا الطابع الخاص مبرزا للتحيزات والميولات الذاتية، لأن النص الذي نتوخى فهمه يصبح في كل مرة المعيار أو النموذج الوحيد كلما تركناه ينكشف بذاته.
كما يقر بكون المسافة الضرورية بين العصور والثقافات، والطبقات والعرقيات وحتى الأشخاص، هي عناصر عابرة للذوات، تنعش الفهم وتمنحه القوة والجهد الفكري، حيث يمكننا وصف هذه الظاهرة بقولنا أن المؤول والنص يمتلك كل واحد منهما افقه الخاص، وأن الفهم يمثل إنصهار هذه الآفاق.
وعند أركون، من أجل تجاوز القراءة ذات البعد الواحد للنص وللتراث الاسلامي، فانه يستخدم كل العلوم الانسانية والاجتماعية المتاحه له، من فلسفة الى الانتروبولوجيا، الى علم النفس الى التاريخ، الى نظريات القراءة المختلفة الى اللسانيات.
لان قرائته تعي منذ البدء انها تأويل، فهي لا تركز على قائل النص فقط، أي المرسل وإنما تركز ايضا على المتلقي أو جمهور المتلقين، وتعطي للمتلقي الحرية الكامله في فهم ما يرغب في فهمه من موضوع التأويل.
والنص عند نصر ابو زيد قابل للتأويلات المختلفه، ومن ثم فإنه يؤكد أن جدلية النص مع الواقع، إضافه الى جدلية القارئ مع النص، قد تفرض تحولا في قراءه نص ما ومفهومه.
فنراه يؤكد ان هذا التحول نوع من تطوير دلالة النص، باتساع افق القراءة، وليس ذلك إلا أثر تطور حركة الواقع في قراءة النصوص، وفي اعادة تأويلها، وهذا بدوره يشير الى أن تأويل النصوص لا يتم إلا من خلال القارئ والمفسر، أي من خلال جدل العقل الانساني مع النص.
ونجد طه عبد الرحمان يكثر من ذكر محمد أركون في كتبه ، وهو ينقد عمليات تقليد الغربيين في طرق تعاملهم مع نصوصهم الدينية وتطبيق ذلك على القرآن، فالقراءات الحداثية تاريخية ومرتبطة بالواقع الذي يعيشه القارئ الحداثي،
وقد اهتمت الكثير من الدراسات، على ما فيها من تنوع، بمختلف القضايا التي انشغل بها أركون طيلة مسيرته العلمية، بما فيها الحديث عن قراءته التأويلية للقرآن الكريم.

#النص #الديني #وإشكالية #التأويل من #غادامير #إلى #أركون بين #دعم #نصر #حامد #أبو #زيد #ونقد #طه #عبد #الرحمان
#Religious #text #and #the #problem #of #interpretation #from #Gadamir #to #Arkoun

المراجع:

القرني د. خالد. (2013). القراءة التأويلية لدى نصر حامد أبو زيد. فكر.
توفيق قاسمي. (2019). تأويل النّص القرآني : طه عبد الرحمان ناقدا لمحمد أركون.
سعد توفيق. (2002). في ماهيَّة اللغة وفلسفة التأويل. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر.
محمود كيشانه. (2020). نقد فهم النص الديني عند الهرمنيوطيقيين العرب : أطروحات طه عبد الرحمن نموذجا. الإستغراب، 17.
مصطفى كيحل. (2011). الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون. منشورات الاختلاف.
هانز جورج غادامير. (2006). فلسفة التأويل ، الأصول، المبادئ، الأهداف. منشورات الاختلاف.

تحميل البحث بصيغة PDF
يتم التشغيل بواسطة Blogger.