المقدمة:
تعرف الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط باسم الفلسفة المدرسية، أي التي كانت تُعلَّم في المدارس، وقد مرت بأربعة مراحل، بدأ من الرواد ثم النشأة ، إلى مرحلة النفصال ثم الثورة ، واعتمدت في تكوينها على دور سابق يمتد من القرن الثالث إلى القرن التاسع،
فما هي مراحل الفلسفة المدرسية ؟
وما هو أثرها في تشكيل الفلسفة المسيحية ؟
الفصل الأول : العصر المدرسي الأول
المبحث الأول : رواد الفلسفة في العصر الوسيط
وأشهرهم ثلاثة، الأول: القديس أوغسطين مؤسس الأفلاطونية المسيحية ومثقف العصر الوسيط كله بمؤلفاته الزاخرة بالأدب والفلسفة واللاهوت. والثاني: ديونيسيوس وهو فيما يُظَنُّ أسقف سوري كتب باليونانية متأثرًا بالأفلاطونية أيضًا، إلا أن كتبه كان لها الحظ الأكبر في الغرب، حيث ترجمت إلى اللاتينية، وظلت مرجعًا في الإلهيات والتصوف. والثالث: بويس مترجم كتب أرسطو المنطقية، ولو أنه عمِّر وترجم باقي كتبه، كما كان معتزمًا أن يفعل، لجاءت الفلسفة المدرسية من أول أمرها أغنى وأعمق مما وفقت إليه مع الأفلاطونية، وقد امتد هذا الدور إلى القرن التاسع، وكان قليل الإنتاج على طوله بسبب ما أصاب روما وإمبراطوريتها من غزوات البرابرة، وما أحدثوا من انقلابات اجتماعية خطيرة تناولت تدمير المدارس وإتلاف الكتب، فجاهد رجال الكنيسة لصيانة آثار الثقافة، فكانت الأديرة المأوى الذي حفظها من الضياع، وكانوا هم حملة العلم، وانصرفوا إلى تمدين تلك الشعوب الفتية، يهذبون طباعها بتعاليم الدين ورياضاته، ويعلمونها الزراعة والصناعة، وينشئون المدارس، فيعملون على تكوين حضارة جديدة.
المبحث الثاني : مرحلة النشأة والازدهار
تشمل العصر الممتد من النهضة التي بعثها شارلمان في الربع الأخير من القرن الثامن إلى نهاية القرن الثاني عشر، تكاثرت المدارس وانتظم التعليم العالي ونبغ العلماء، فشهد القرن التاسع حركة علمية زاهرة كان أكبر أعلامها جون سكوت أريجنا، حتى استؤنف النشاط العلمي في القرن التالي، فنبغ جدليون — أي مناطقة — ونبغ لاهوتيون كان أعظمهم قدرًا القديس أنسلم، ولم يكن لدى هؤلاء وأولئك من أسباب العلم سوى مصادر الدور السابق، فكان اللاهوتيون أوغسطينيين أي أفلاطونيين، وكانت بضاعة الجدليين تنحصر في بعض آراء أفلاطونية ، و المقولات والعبارة والتحليلات الأولى لأرسطو، على أنه كان لهذا المنطق الضئيل أثران هامان:
فقد أدى من ناحية إلى إثارة مسألة الكليات الخمس ونصيبها من الحقيقة في الخارج، وكان هذا عبارة عن إثارة مسألة المعرفة،
وأدى من ناحية أخرى إلى محاولة تطبيق قواعد المنطق في معالجة المسائل اللاهوتية، وكان هذا بداية البحث في العلاقة بين العقل والإيمان،
حتى إذا ما جاء القرن الثاني عشر استقرت الحياة الاجتماعية فازدهرت التجارة والصناعة، ونشطت الفنون بأنواعها حول فن بناء الكاتدرائيات، وقامت رهبنات جديدة زادت في عدد المدارس إلى حد كبير، وخاصة في فرنسا، فاشتدت الحركة الأدبية والحركة العلمية، وظهر عدد وفير من اللاهوتيين والجدليين ، على أن أهم ظاهرة لدينا في هذا القرن — لما سيترتب عليها من أثر بالغ — هي ابتداء اتصال الغرب بالشرق، ونقل الكتب من العربية إلى اللاتينية، كتب اليونان وكتب المسلمين من فلسفية وعلمية.
الفصل الثاني : العصر المدرسي الأخير
المبحث الأول : عصر الجامعات والانفصال عن السلطة الكنسية
ببلوغ القرن الثالث عشر، ظهرت الكتب التي دفعت العقول إلى الأمام دفعًا قويًّا، وبعثت في المدارس العليا نشاطًا هائلًا أحست معه هذه المدارس بقوتها الذاتية فانفصلت عن السلطة الأسقفية واستقلت بشئونها العلمية والإدارية فكانت منها الجامعات، ورأينا في مقدمة تلك الكتب مؤلفات أرسطو مترجمة من العربية، ومؤلفات الكندي والفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد ، بيد أن الأساتذة والطلاب تشبثوا بأرسطو بالرغم من التحريم الكنسي، ثم فطنوا إلى مساوئ الترجمات التي كانت بين أيديهم، فبحثوا عن ترجمات من اليونانية الأصلية بتمام الدقة، تسمح لهم بالتفرقة بين ما لأرسطو وما لغيره من الشراح اليونان والعرب، فنهض بالعمل علماءُ باليونانية، ودار حول أرسطو التفكير الفلسفي واللاهوتي، فريق معه، وفريق عليه، يحمل لواء كل فريق مفكرون من الطراز الأول، فتطورت الأوغسطينية، يمثلها القديس توما الأكويني فأنشأ الأرسطوطالية المسيحية، عارض بها المذهب الأوغسطيني الذي كان المذهب السائد بلا منازع، وتمسك البعض بتأويل ابن رشد لأرسطو فقامت في جامعة باريس «رشدية لاتينية» دار عليها نزاع عنيف، وانصرم القرن، والنضال بين المذاهب على أشده.
المبحث الثاني : عصر الثورة ونقد الفلسفة القديمة
القرن الرابع عشر، الذي امتاز بخصائص مختلفة، فكانت ثورة على الماضي كله، امتاز كل شيء بنفور شديد من المعاني المجردة ونزوع قوي إلى الواقع، أخذ في نقد المجردات ولم يرَ فيها إلا أنها أسماء أو ألفاظ جوفاء، بحيث تصح تسميته بعهد الاسمية أو اللفظية، وقاده هذا النقد إلى الشك في العقل والمعقولات، ودعا تفكير العقل فلسفة خالصة مقطوعة الصلة بالدين، وآمن بالدين إيمانًا دون أي سند من العقل، ومضى في نقده من المجردات العقلية الخاصة بأرسطو ، فبددها وتحرر من سلطان أرسطو في العلم والفلسفة جميعًا،
بل مد النقد إلى أصول الاجتماع فأيد أباطرة الجرمان والملوك في تمردهم على البابوية، وقال بوجوب الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية، ما كان يشير إلى قرب هبوب عاصفة «الإصلاح الديني»،
رأى الفلاسفة المجددون أن المعرفة الحسية الجزئية أوضح وأوكد من المعرفة العقلية المجردة، وأقبلوا على الطبيعة يدرسونها لذاتها فوضعوا العلم الخاص المستقل عن الفلسفة، جددوا علم الفلك واهتدوا إلى قوانين جديدة للحركة، فهدموا البناء الذي شاده أرسطو «للسماء والعالم»،
بحيث إذا نظرنا إلى هذا القرن بالإضافة إلى ما سبقه، وجدناه عصرَ انحلالٍ وشك وتمرد، ووجدنا أن كل ما يربطه بالعصر الوسيط هو أن رجاله مدرسيون، أي كهنة ورهبان من أساتذة الجامعات، وإذا نظرنا إليه بالإضافة إلى ما سيليه، قلنا: إنه عصر تجديد وإنشاء، وإنه إذا أريد تعيين بداية العصر الحديث بمميزاته الفكرية تعيينًا دقيقًا، وجب الرجوع إلى العام الأول من هذا القرن الرابع عشر.
الخاتمة :
يقال في العصر الوسيط بالإجمال: إنه كان عصر جهل وظلام لا خير فيه، يجب تخطيه إلى عصر «النهضة الحديثة» عصر النور والعرفان،
وقيل في الفلسفة المدرسية: إنها كانت تعلم وتدون بلاتينية ركيكة سقيمة، وتسرف في استخدام القياس وفي المناقشة اللفظية، وتعالج مسائل الدين ليس غير، وتخضع في ذلك للنقل دون العقل، أي لسلطة آباء الكنيسة وسلطة أرسطو، بغير نقد ولا تمحيص،
هذه أقوال ، أذاعها أول الأمر في القرن السادس عشر أولئك الأدباء الذين يصفون أنفسهم بالإنسانية، المتحلون بالثقافة اليونانية اللاتينية ، المتشبعون بما فيها من وثنية، المتحاملون على العصر الوسيط بما فيه من دين وأدب وعلم وفن.
المراجع:
تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط ، يوسف كرم ، 2012
تحميل البحث بصيغة PDF