المقدمة:
ظهرت الحاجة للتأويل عند ابن رشد في مجالين على الأقل نحاول بسط الحديث فيها في هذه الورقة البحثية، وهما تأويل النص الفلسفي من جهة وتأويل النص الديني المقدس هو الآخر من جهة أخرى، و يبدو أن هذه الحاجة ألحت على ابن رشد بسبب تعارض ظواهر بعض النصوص المقدسة مع إقرارات العقل وكذا غموض وعسر مفاهيم الفلسفة العقلية، الأرسطية بالخصوص، وبُعدها عن متناول الفهم العام.
كذلك اشتغل ابن رشد بالتأويل ثقة منه أن العامة، الذين دعاهم بالخطابيين، لا قدرة لهم على فهم واستيعاب بعض الحقائق عارية دون تبسيطها وتأويل دلالاتها، غير أنه بمقابل ذلك ينهى عن تأويل بعض النصوص المقدسة وتركها على مدلولها الظاهري في متناول العامة ، رحمة بعقولهم وتجنبا للفتنة، فقد كان مما عابه على سابقيه، خصوصا في نقده للغزالي، كونهم فتحوا هذا المجال أمام الناس دون تحفظ فشاع الخلاف وظهرت الفرقة.
فكيف كان تأويله للنصين الفلسفي والديني ؟
وماهي القواعد التي سنها لضبط هذا التأويل ؟
و يعد الفيلسوف «ابن رشد» الفقيه والطبيب والفيزيائي والقاضي المسلم، المولود في «قرطبة» والذي عاش في وقتٍ كانت الأندلس منارة ثقافية وعلمية وحضارية كبرى بعلمائها ومكتباتها. صاحب إسهام عظيم في الفلسفة؛ حيث قدَّمَ شروحات للفلسفة اليونانية احتفى بها الغربُ وترجَمَها، وقد رأى ابن رشد أن ليس ثمة تعارُض بين الدِّين والفسلفة فكلاهما ينشد الحقيقة. وهذه الشروح حملت الكثير من فلسفته الخاصة، تلك الفلسفة كانت سببًا من أسباب نكبته المعروفة؛ حيث أُحْرِقت كُتُبه، وتم نفيه بعيدًا عن دياره بعد أن اتُّهِمَ بالزندقة والإلحاد بإيعاز من حساده، وإنْ كان قد بُرِّئَ منها في أواخر حياته.4
لقد كان من نتائج هذا العداء، أن وُجدت هوَّة بين الفلاسفة ورجال الدين ظلت دهرًا طويلًا فاصلًا بينهم، وأن رمي رجالُ الدين الفلاسفةَ بالإلحاد إن لم نقل بالكفر، وجازاهم هؤلاء شرًّا بشر فرموهم بالجهل وعدم فهم الدين! وكان من هذا وذاك أن حُرم الدين من جهود كثير من أبنائه المفكرين، فانكمش التفكير الحر الصحيح وخاصة بعد وفاة ابن رشد سنة ٥٩٠ﻫ، فقد فقدت به الفلسفة الإسلامية أكبر ممثل ونصير لها من المسلمين، وتضافرت عوامل مختلفة لسيادة روح التقليد.2
المبحث الأول : ما بين النصين الديني والفلسفي
المطلب الأول : تأويل النص الفلسفي عند ابن رشد
يرى ابن رشد أن الاستفادة من الفلسفة اليونانية ضرورية رغم الإشكالات الكثيرة التي حدثت بسبب تعارض الكثير من المفاهيم الفلسفية مع العقيدة الإسلامية حيث قال :
وليس يمنع من النظر في تراث الإغريق أن ضلَّ بالنظر فيه قوم لم يكونوا أهلًا لمعرفته، كما ليس لنا أن نمنع العطشان من ورود الماء العذب البارد؛ لأن غيره شرب منه فمات؛ فإن هذا الضرر أمر عرض. 3
ويرى ابن رشد أن التأويل هو الوسيلة الناجعة لحل الخلاف الحاصل والتقريب بين المفاهيم، حيث لا شك عند ابن رشد أن التأويل هو منهج أساسي لفهم النص الديني أو الفلسفي وتحديد مقاصده. وهو أمر لا يتحقق للمؤول، إلا إذا اعتمد على آليات معينة، إلى جانب التزامه بأسس وقوانين محددة.5
وقد اعتمد ابن رشد على المنطق، بوصفه أداة أساسية في التأويل، تمكن من بلوغ الحقيقة اليقينية التي لا شك فيها. وإن كانت هذه الأداة من وضع أرسطو، إلا أن ابن رشد لم يرى فيها مشكلة، وحاول البرهنة على مشروعية الفلسفة وعلوم المنطق بالاستناد إلى الشرع. لكن ابن رشد تمكن بفضل القياس البرهاني من شرح وتفسير النص الأرسطي، لأنه يقوم على مقدمات يقينية واضحة، إما أن تكون ناتجة من البرهان أو بديهية، وبترتيب هذه المقدمات ترتيباً منطقياً، من البسيط إلى المعقد، يسهل إدراك النتيجة وفهمها، ومن ثم يزول الغموض، ويتوضح الغرض الأرسطي أكثر.5
كما تمكن ابن رشد من تخليص النص الأرسطي من كل ما هو غامض، سواء على مستوى اللفظ أم المعنى، حيث استبدل بعض المصطلحات الغامضة، وغير المتداولة، في ذلك الوقت، بمصطلحات معروفة ومتداولة. وعمل أيضاً على ضبط المعنى بتقويم الجملة وتصحيحها على المستوى اللغوي.5
كان يهدف ابن رشد من خلال شرحه وتلخيصه للنص الأرسطي إلى تحديد أغراضه من جهة، وإلى البرهنة على المشاكل الفلسفية، وإيجاد الحلول لها بمقدمات صادقة من جهة أخرى، الأمر الذي مكنه من قراءة النص الأرسطي وفق رؤية متميزة، ومن البرهان على المشاكل الفلسفية التي طرحها أرسطو بمقدمات نابعة من رؤيته الميتافيزيقية الخاصة به لا بأرسطو، وهو بتلك القراءة يعدّ مجدداً لا مقلداً.5
إضافة إلى أن النص الأرسطي يفتقد البيان والوضوح، بالنظر إلى عدم اعتماده على المقدمات الواضحة والبينة بذاتها، وعلى التسلسل في عرضها، لذلك لجأ ابن رشد إلى حلّ الإشكالات وتحديد غرض أرسطو بدقة، كي يزول الغموض وتتحدد الأهداف بمقدمات أكثر وضوحاً وبياناً وتسلسلاً، الأمر الذي يسهل الاستنباط، ومن ثم يحصل الفهم وتتم المعرفة.5
المطلب الثاني : النص الديني بين ظاهر وباطن
وفي مواجهة المشكلات الدلالية في النص الديني يرى ابن رشد أنه : كان لا بد من أَخْذِ العُدَّة لعلاج ما يظهر من تعارض واختلاف بين النص ونظر العقل. هذه العدة تقوم على أنه من المقطوع به — كما يؤكد فيلسوفنا — أن كل ما أدَّى إليه البرهان الصحيح لا يمكن أن يخالف ما أتى به الشرع؛ فإن الحق لا يضاد الحق، بل يشهد له.3
وإذن؛ فإن وُجد هذا التعارض والاختلاف، كان لا بد من تأويل النص تأويلًا يتفق وما نعرف من قواعد اللغة، وذلك مثلًا بإخراجه عن دلالته الحقيقية إلى دلالته المجازية. بهذا لا يصطدم العقل والشرع، ولا تترك واحدًا منهما لأجل الآخر، بل نجعل لكل منهما اعتباره، ونوفق بينهما بما لا تأباه اللغة وأصولها، فتزول العقبة — وهي تعارض نص الوحي ونظر العقل — كانت تقف في سبيل هذا الجمع والتوفيق.3
وكان من نتائج هذا المنهج هو التأكيد على وجود آيات وأحاديث لا بد من صرفها عن ظاهرها وتأويلها لنتعرَّف على المعاني الخفية المرادة منها ، أو بعبارة أخرى هي ضرورة انقسام الشرع إلى ظاهر وباطن لكل منهما أهله، و أن الناس مختلفون في الفِطَر والعقول.3
وهم لهذا تختلف حالاتهم في فهم النصوص وإدراك ما يراد بها، كما تختلف وسائلهم في التصديق بما يجب التصديق به من أمور هذا العالم الحاضر والعالم الآخر، ومن وجود الله وما يتصل به من سائر ما جاء به الدين من معتقدات.3
ومن أجل ذلك، يُقسِّم فيلسوف قرطبة الناس إلى ثلاث طوائف:
1- الخطابيون، وهم الكثرة الغالبة السهلةُ الاقتناع التي تصدق بالأدلة الخطابية،
2- وأهل الجَدَل — ومنهم المتكلمون — الذين ارتفعوا حقًّا عن العامة، ولكنهم لم يصلوا لمرتبة أهل البرهان الحقيقي،
3- والبرهانيون بطبائعهم المواتية وبالحكمة التي راضوا عقولهم عليها، وأخذوا أنفسهم بها.3
المبحث الثاني : قواعد التأويل عند ابن رشد
المطلب الأول : المستويات الثلاثة للتأويل
لم يدع ابن رشد الأمر فوضى؛ فيؤول كلٌّ ما يريد من النصوص، ويثبت التآويل في أي كتاب يريد، ويصرح بها لمن يشاء، بل جعل لكل ذلك قانونًا يعلم منه ما يجوز تأويله وما لا يجوز، وما جاز تأويله فلمن؟ هذا التأويل، الذي جعل بحسبه كل شيء في موضعه، ختم به كتابه: «الكشف عن مناهج الأدلة.3
أراد ابن رشد بهذا القانون أن يضع حدًّا للتآويل التي كثرت وذاعت وتناولها الجميع حتى حدثت عنها اعتقادات غريبة وبعيدة عن ظاهر الشريعة، ووُجد بسببها في الإسلام فرق متباينة يكفِّر بعضها بعضًا. وهذا كله جهل بمقصد الشرع وتعدٍّ عليه كما يقول.3
ومن أجل ذلك، ولإزالة العداوة بين الفلسفة والشريعة، يجب بصفة عامة ألا يُصَرَّحَ بالتآويل، وبخاصة ما يحتاج منها إلى برهان لغير أهلها، وهم القادرون على البرهان والاستدلال بالمنطق، كما يجب ألا نثبت شيئًا منها في الكتب الخطابية والجدلية الموضوعة للعامة ومن إليهم من الجدليين. إننا إن فعلنا غير هذا أثمنَا، وكنا سببًا في إضلال كثير من الناس.3
من السهل بعد هذا أن نفهم أن فيلسوفنا لا يرى أن في النصوص الدينية — من القرآن والحديث — نصوصًا متشابهات، لا بالنسبة للعلماء الذين يعلمون مع الله تأويلها، ولا بالنسبة للجمهور الذي لا يُطْلَبُ منه إلا أن يؤمن بما يفهم من ظواهرها دون البحث عن تأويلها وبيان معانيها الخفية.
أما أهل الجدل والمتكلمون، فهم الذين يوجد في حقهم التشابه في بعض هذه النصوص. إنهم وقد ارتفعوا عن العامة، ولم يصلوا إلى مرتبة الخاصة، عرضت لهم شكوك وشبه لا يقدرون على حلها، ولكنهم تعلقوا بها، فحاولوا عبثًا تأويلها، فضلوا في أنفسهم، وأضلوا من اتبعهم؛ لهذا ذمهم الله بأن في قلوبهم زيغًا ومرضًا، فهم يتبعون ما تشابه من القرآن ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله، وما هم ببالغيه، إذ لا يعلم هذا التأويل إلا الله والراسخون في العلم، وهم ليسوا منهم في شيء.3
كما أنه يتشدد في وجوب تطبيق ما وضع من مبادئ وقواعد تتعلق بالتأويل، وتحريم أن يذاع لغير أهله، ولهذا لام الغزالي — وسائر المتكلمين من أشاعرة ومعتزلة — لإثباتهم التآويل في مؤلفاتهم، فذاعت لذلك بين العامة ومن ليس أهلًا لها.3
المطلب الثاني : محاولة التوفيق بين الدين والفلسفة
كان همُّ ابن رشد هو الإلحاحَ أولًا على وجوب الفصل بين العامة والخاصة وتعاليم كل طائفة بينهما، وفي هذا سعادة الجميع؛ لأنَّ الحقيقة الواحدة يعبَّر عنها بطرق مختلفة باختلاف العقول والاستعدادات.2
وهذا ما جعل بعض الباحثين المُعاصرين يذهب إلى أنَّ توفيق ابن رشد بين الحكمة والشريعة — على خلاف ما كان من الفارابي وابن سينا — لم يكن توفيقًا «داخليًّا»، ولكنه فقط فصل ظاهري بين السلطات.2
ولكن الحقيقة هي أنَّ ابن رشد اضطر كما عرفنا بسبب حملة الغزالي إلى أن يترك لنا مُحاولة عملية للتوفيق بين الحكمة والشريعة توفيقًا داخليًّا حقًّا؛ ولهذا نراه في أكثر من موضع من كتاباته يعتذر من كل قلبه عما اضطر إليه من الكلام في مسائل الشريعة والفلسفة على ذلك النحو الذي لم يكن يَوَدُّه.2
ذلك ما كان من النَّاحية العملية الواقعية، أمَّا من ناحية الحق في نفسه، فإننا نستطيعُ أن نقول بأنَّ ابن رشد نجح في التوفيق بين الدين والفلسفة، وهذا في كثير من المسائل التي تناولها، ولكنه لم ينجح بصفة خاصَّة في مسألة البعث والجزاء في الدار الأُخرى؛ وذلك؛ لأنه لم يستطيع بل ليس من المُستطاع لأحد، تأويل كل الآيات القرآنية و الأحاديثَ أيضًا، التي تَدُلُّ صراحة على أنَّه في الحياة الأُخرى ستكون لذائذ وآلام جسمية بجانب الأُخرى الرُّوحية.2
الخاتمة :
رغم محاولات ابن رشد القيمة في كتبه لرأب الصدع العميق الذي تشكل عبر القرون بين الفلسفة والدين، إلا أنها كانت غير كافية للعديد من الاعتبارات، فكان بحق آخر إشراقة فلسفية في تاريخ الحضارة الإسلامية قبيل مغيبها، ويحسن هنا أن نورد اعتذاره الذي ساقه في كتابه " فصل المقال " :
فهذا ما رأينا أن نثبته في هذا الجنس من النظر، أعني التكلم بين الشريعة والحكمة، وأحكام التأويل في الشريعة. ولولا شهرة ذلك عند الناس، وشهرة هذه المسائل التي ذكرناها، لما استجزنا أن نكتب في ذلك حرفًا، ولا أن نعتذر في ذلك لأهل التأويل بعذر؛ لأن شأن هذه المسائل أن تُذْكَرَ في كتب البرهان.3
وهذا الاعتذار الحق، الذي له أسبابه ومبرراته، يشبه اعتذار سلفه ابن طفيل — في مثل حالته — عن مخالفة طريق السلف الصالح في الضنِّ بالحكمة على غير أهلها، بأنه حاول إصلاح الذي أفسده سابقوه الذين صرحوا بآراء مفسدة، وتآويل ضالة تلقفها غير أهلها فعمَّ لذلك ضررُها.3
وبناءً على ما تقدم صار ابن رشد عبارة عن راية تتحارب حولها شعوب وأمم مختلفة في إيطاليا وفرنسا وأسبانيا. وكان للفيلسوف العربي الجليل سمعتان, الأولى سمعة الفضل والعلم والنزاهة وهي عند أساتذة المدارس الذين كانوا يرومون كسر النير القديم.
والثانية سمعة الكفر وبغض الدين وهي عند العامة والبسطاء والجهلاء. ولم يأت القرن الرابع عشر حتى صارت سلطة ابن رشد في أوروبا فوق كل سلطة وتقدم على ابن سينا بعد أن كان محسوبًا في القرن الثالث عشر دونه. ولما أراد الملك لويس الحادي عشر ملك فرنسا إصلاح التعليم الفلسفي في سنة ١٤٧٣ طلب من أساتذة المدارس «تعليم فلسفة أرسطو وشرح ابن رشد عليها؛ لأنه ثبت أن هذا الشرح صحيح مفيد».1
في الأخير، يمكن ملاحظة تشابه كبير بين أفكار ابن رشد من ناحية، وأفكار سبينوزا من ناحية أخرى، في ضرورة فصل الفلسفة عن الدين بالنظر إلى العامة، وبصفة عامة بين جمهرة مفكري الإسلام من ناحية، وجمهرة مُفكري اليهودية والمسيحية من ناحية أخرى، في ضرورة تأويل بعض ما جاء في الكتب المُقدسة تأويلًا مجازيًّا.3
# # #بحث # #ورقة #بحثية #فلسفة #تأويل #النص #عند #إبن #رشد #
#Research #paper #on #the #philosophy #of #interpretation #of #the #text #according #to #Averroes
المراجع:
1- فَلسَفَةُ ابنِ رُشْد ، فرح أنطون
2- بين الدين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط، محمد يوسف موسى
3- ابن رشد الفيلسوف ، محمد يوسف موسى
4- ابن رشد ، عباس محمود العقاد
5- التأويل عند فلاسفة المسلمين ابن رشد نموذجاً، فتيحة فاطمي ، محمد بكري
تحميل البحث بصيغة PDF