أعني بالإيقاع الكلي الإيقاعَ العام الذي يميّز حدثا بعينه عن باقي الأحداث، ويعطي القصة القرآنية صبغة عامة تنفرد بها عن باقي القصص أو يضفي على السورة الواحدة طابعا إيقاعيا متميزا يسري فيها من أولها إلى آخرها، بغض الطرف عن الموسيقى الداخلية التي آثرنا أن نسميها " الإيقاع الجزئي" الذي يتخلل كل من المستويات الثلاثة المذكورة آنفا من إيقاع صوتي أو لفظي أو تركيبي. والإيقاع الكلي يوجد بشكل بارز جدا في القرآن العظيم، وقد تناوله سيد قطب بشيء من التفصيل وبالأخص على مستوى القصة وعلى مستوى السورة.
أ.على مستوى الحدث:
تبين لسيد قطب من خلال دراسته للإيقاع القرآني أن الحدث في القرآن العظيم ذو إيقاع يختص به، ويختلف فيه من سياق لآخر. وله من التأثير في نفس المتلقي ما لا يخفى، فمرّة يضفي عليه شعور الخوف والرعب، وبخاصة في مشاهد القيامة، أو مشاهد الأخذ بالأمم الغابرة ـ ومرّة يضفي عليه شعورا بالانبهار والتعجب، ومرّة يعطيه رنة الاطمئنان والسعادة، ومرّة أخرى يدفعه إلى الاعتبار. وفي هذا من الإحساس بالمتعة الجمالية ما فيه.
تناول سيد قطب الأحداث القرآنية من جوانب مختلفة. لكن اهتمامه بها في مجال القصص القرآني كان أظهر، وبخاصة في فصل " القصة في القرآن"
[i]في كتاب "التصوير الفني في القرآن". ينسجم الحدث بإيقاعه مع بقية العناصر المكونة للخطاب القرآني، لبناء النص المعجز؛ إذ إن سر إعجازه يتعلق بسر هذا الانسجام البديع. وقد تحدث سيد قطب عن مختلف الأحداث الواردة في القرآن الكريم، و أذكر منها:
أ.1.
مشاهد القيامة: من بين الأحداث التي صورها القرآن ما يقع في اليوم الآخر من أهوال، وقد أفرد لها سيد قطب كتابا وسمه " مشاهد القيامة في القرآن"، يقول في قوله تعالى: ﴿
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)﴾
[ii]:« تلك الفقرات التي تصوّر العرض العسكري تشترك فيه جهنّم بموسيقاها المنتظمة الإيقاع، القوية التنغيم من البناء اللّفظي الشديد الأسس... يوم لا يعذّب أحد كعذاب الله، ولا يوثق أحد كوثاقه»
[iii]فالموسيقى المنتظمة الإيقاع تصوّر انتظام الصفوف في ذلك الحدث العظيم، البعيد عن الإدراك. وقوة النبر، وشدة التنغيم في البناء اللّفظي تنبئ عن قوة الحدث وعظمة الموقف؛ موقف الحساب بعد أن تدك الأرض والجبال، وهما أعظم ما يراه الإنسان في مجاله البسيط.
مشاهد القيامة في القرآن كثيرة، وهي في كل مرّة ذات شكل خاص، ولون متميز، وتصور الموقف من زاوية محددة. وفيما يلي مشهد التكوير:﴿ إِ
ذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)... ﴾
[iv]. « ويبدأ المشهد بحركة جائحة، وثورة ثائرة، وكأنّما انطلقت من عقالها المردة المدمرة، فراحت تقلب كل شيء، تهيج الساكن، وتروّعُ الآمن.. والموسيقى المصاحبة للمشهد سريعة الحركة، لاهثة الإيقاع تشترك بإيقاعها السريع في تصوير المشهد وتمثيله في الإحساس»
[v] عبر سيّد قطب في قوله هذا عن تلك الصوّر التي ترتسم في خياله بمجرد استماع تلاوة القرآن وقراءة الآيات، فينقلها للملتقي مثلما تلقاها ويصفها وكأنها تقع أمامه، ويركز في حديثه على الجانب الإيقاعي للمشهد، وأثره في إحساس المتلقي، وعن دوره في التصوير؛ ذلك أن الإيقاع يؤدي دور التمثيل والتصوير بتجسيد المنظر في هيئة متحركة حيّة، ويؤدي دور التأثير في النفس بتحريك المشاعر وتفعيل الأحاسيس.
أ.2.
مصارع الغابرين: ومن المشاهد التي يبدو فيها عامل الإيقاع جليا مصارع الغابرين، فقصة هلاك قوم من الأقوام الغابرة في القرآن عادة ما تكون ذات إيقاع موسيقى يعمُّ الحدث من أوّله إلى آخره، ليجعل له بصمة خاصة، ويغدو المتلقي حاضراً مستمعاً ومشاهداً؛ فالإيقاع يساعد في رسم الصورة في خيال المتلقي، لتبعث في نفسه حسّاً جمالياً مرهفاً، تمليه أدق النغمات الصوتية التي تكوّن الإيقاع الحدثي العام. ونجد هذا في وصف سيد قطب لحادثة " الطوفان "، مثلما ارتسمت في ذهنه بعد تلقيه لآيات الطوفان في سورة "هود":
« إن التكوين الموسيقي للجملة هنا يزيد على التموّج العمق والسعة، وفيه كذلك هول وشجى، إنها موسيقى الطوفان: ﴿
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) ﴾
[vi] إنّ التكوين الموسيقى للجملة ليذهب طولاً وعرضاً في عمق وارتفاع ليشترك في رسم الهول العريض العميق. والمدّات المتوالية المتنوعة في التكوين اللفظي للآية تساعد في إكمال الإيقاع وتكوينه واتساقه مع جو المشهد الرهيب العميق.»
[vii] عبّر سيّد قطب عن التأثير الإيقاعي تعبيراً موسيقيا مثلما استقبلها خياله، إذ إنه يلتقط أدنى الحركات، وأدق التعابير، فيقارب بين الأمواج الحقيقية في حادث الطوفان ومدّات الإيقاع، وانقباضه التي يعدها موجة موسيقية تقابل الأمواج البحرية.
قد تجتمع أحداث مختلفة عبر التاريخ في النسق القرآني، وتأخذ مع بعضها طابعاً إيقاعياً مثلما جاء في ختام سورة (ق):« ثم يجيء المقطع الأخير في السورة، فيه لمسة التاريخ ومصارع الغابرين. وفيه لمسة الكون المفتوح وكتابه المبين، وفيه لمسة البعث والحشر في مشهد جديد ومع هذه اللمسات التوجيه الموحي العميق للمشاعر والقلوب: ﴿
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)... ﴾
[viii]ومع أنّ هذه اللمسات كلّها قد سبقت في سياق السّورة إلاّ إنّها حين تعرض في الختام تعرض جديدة الإيقاع جديدة الوقع. بهذا التركيز وهذه السرعة. ويكون لها في الحس مذاق آخر غير مذاقها وهي مبسوطة مفصلة من قبل في السّورة. »
[ix] تحدث سيد قطب هنا عن توالي الأحداث في النسق القرآني، وعن عجيب نظمها، فالأحداث السابق ذكرها تختلف في مواضيعها ولكن النظم القرآني جمعها فجاءت منسجمة متكاملة لتؤثر في نفس المتلقي، ولتحدث لديه استجابة بشكل من الأشكال، والقرآن بهذا يثبت إعجازه من هذه الوجهة.
ب-
على مستوى القصّة: يأخذ الإيقاع في القصّة شكلاً خاصّاً يميّزها عن غيرها من الأجناس. وفي القرآن الكريم القصّة ذات أسلوب إيقاعي مميّز.«إنّ التوافق الصّوتي في أسلوب السّرد القصصي في القرآن لا تخلو منه عبارة واحدة، سواء كان هذا التوافق من حيث قران القريب بمثله، أو المتداول بمثله، وذلك مراعاة لحسن الجوار والمناسبة، وزيادة في الائتلاف والتوفيق.»
[x] تتضمن القصة إيقاعاً حسّاساً قد لا يظهر في بادئ الأمر، ولكنّه يعطي القصّة طابعاً إيقاعياً موحداً تختصّ به عن باقي القصص في القرآن، أو حتى عن القصّة التي تحمل نفس موضوعها، ولكنّها تختلف عنها من حيث الموقع في السياق القرآني. إذ «تتساند أصوات الحروف فيما بينها، في الكلمة الواحدة والجملة، داخل أسلوب السّرد في القصص القرآني، لتؤلف نظماً موسيقياً متآلفا تآلف القطعة الموسيقية داخل إطار المنظومة الواحدة المتكاملة فلا تنافر بين وحداتها، ولا تعارض بين أجزائها.»
[xi] يرى سيّد قطب أنّ التناسق الفنّي في القرآن، يظهر في إيقاع القصّة الواحدة، مثلما يظهر في غيرها،حيث أنها تتميز بإيقاع يشملها من البداية وحتى النهاية، يتحقق فيه الانسجام والتميز« حتى أنّ بعض الأصوات أو الحركات قد تكون ثقيلة في نفسها، لسبب من الأسباب، فإذا ضمّها الأسلوب السّردي في القصص القرآني لأصوات أخرى رأيت أصوات الأحرف والحركات التي قبلها، قد امتهدت طريقاً في اللسان واكتنفتها بضروب من النّغم الموسيقي، حتى إذا خرجت فيه، كانت أعذب شيء وأرقّه، وجاءت متمكّنة في موضعها، وكانت لهذا الموضع أولى الحركات بالخفّة والرّوعة.»
[xii] و بهذا جاءت القصّة لتؤدّي دورها الإبلاغي السّردي، ودورها الديني، ودورها الجمالي الفنّي، الذي يبعث بتأثيره النّفسي الفعّال في نفوس المتلقين .
يتبع.......
الهوامش:
انظر: سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، ص143.[i]
سورة الفجر.[ii]
سيد قطب، مشاهد القيامة في القرآن، ( دار الشروق، القاهرة/ بيروت)، ص60 ، و كذا ينظر، التصوير الفني في القرآن، ص97.[iii]
سورة التكوير.[iv]
سيد قطب، مشاهد القيامة في القرآن، ص57.[v]
سورة هود.[vi]
سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، ص112،113.[vii]
سورة ق.[viii]
سيد قطب، في ظلال القرآن، ( دار الشروق، القاهرة/ بيروت،ط15، 1408هـ/ 1988م) ج06، ص 3366.[ix]
محمد طول، البنية السردية في القصص القرآني (ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1991م)، ص 195.[x]
[xi] محمد طول، البنية السردية في القصص القرآني، ص191.
محمد طول، البنية السردية، ص 191.[xii]