يخضع أسلوب الإيقاع السردي في القصص القرآني عند سيد قطب لعدة أنماط لغوية أذكر منها:
1.تخيّر الأصوات:
تنبه سيد قطب إلى أن القصة في القرآن ذات إيقاع هادئ، ورخيّ، يبدو مطرداً في كل القصص القرآني، ويعدّه سمة عامة لأسلوب التعبير القصصي في القرآن:« ومن هنالك .. من هذا الجو الرّاجف الواجف المبهور المذعور.. يأخذ في عرض مصرع من مصارع المكذّبين العتاة في حلقة من قصّة موسى مع فرعون. فيهدأ الإيقاع الموسيقي ويسترخي شيئاً ما، ليناسب جوّ الحكاية والعرض:﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)﴾ [i]وبهذا يلتقي ويمهد لتلك الحقيقة الكبرى. »[ii]
الإيقاع (الرّخيّ) الممتد الأزمان ليس بالأمر الثابت في القصّة القرآنية، فقد ينتابها شيء من التسارع في الإيقاع فتستعمل الأصوات القصيرة الأزمان تبعاً لإيقاع السّورة العام، ثم إنّ التركيب الذي يسبق القصّة القرآنية، والذي يلحقها هو الذي يحدّد نوع الإيقاع الذي يركّبها، فتتكامل عناصر الجمال الفنّي في النّسق القرآني. إنّه الأمر الذي سعى سيّد قطب لإثباته وكشف خصائصه، فوجد أنّ القصّة لها تركيب متخصص يجعل لها إيقاعاً عاماً يحكمها، ويبدأ من الجملة الموسيقية التي تتركب منها عناصر القصّة فتتآلف الجمل فيما بينها، لتعطي إيقاعاً عامّا وموسيقى متميزة ينتبه لها القارئ المتمرّس من أوّل وهلة.« على أنّ هناك نوعاً من الموسيقى الدّاخلية يلحظ ولا يشرح، كما أسلفنا، وهو كامن في نسيج اللّفظة المفردة، وتركيب الجملة الواحدة. وهو يدرك بحاسّة خفيّة وهبة لدنية. وهكذا تتبدى تلك الموسيقى الدّاخلية في بناء التعبير القرآني، موزونة بميزان شديد الحساسية.»[iii]
2.تخيّر الألفاظ:
للتركيب اللّفظي وتخيّر الألفاظ دور كبير في إعطاء القصّة طابعاً إيقاعياً عامّاً يحكمها؛ ذلك أن اختيار الألفاظ وفق أسلوب محدد يعطي الإيقاع تميزه.« ومن أمثلة التوافق الصّوتي في أسلوب السّرد القصصي كذلك ما جاء في قوله تعالى على لسان الهدهد: ﴿وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)﴾[iv]فلقد جاور السرد بين كلمتين" سبأ " و" نبأ " لتساويهما في حروفهما، وتوازنهما في موسيقاهما، حتى يعطي للأسلوب شكلاً أكثر توافقاً وانسجاماً، وللمعنى عمقاً أبعد، ودلالة أوسع.»[v] ونلاحظ ذلك في قوله تعالى على لسان زكريّا عليه السلام:﴿ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ﴾[vi] والأثر الذي يتركه التركيب اللّفظي الخاص في النسق القرآني ملحوظ لا يمكن إغفاله، وذلك في ترتيب ( إني) و(مني) على ذلك الشكل .
3.تخيّر الأسلوب( تركيب القصص، تغير الفاصلة..):
كما أن أسلوب القصّ وطريقة تركيب القصص مع بعضها في القرآن كذلك يفرض نوع الإيقاع القصصي السائد: « فمن المواضع التي لاحظنا فيها أنّ تغيّر نظام الفاصلة والقافية يعني شيئاً خاصّاً ما جاء به في سورة مريم. فالسّورة تبدأ بقصّة زكريّا عليه السلام ويحيى، وتليها قصّة مريم و عيسى، وتسير الفاصلة والقافية هكذا:﴿ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)﴾[vii]... الخ.
﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)﴾... الخ. إلى أن تنتهي القصّتان على روي واحد، وفجأة يتغيّر هذا النسق بعد آخر فقرة في قصّة عيسى على النّحو التالي: ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) (...)ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ... الخ ﴾ و هكذا يتغيٍّر نظام الفاصلة فتطول، ويتغيّر نظام القافية فتصبح بحرف النون أو بحرف الميم وقبلهما مدّ طويل. وكأنّما هو في هذه الآيات الأخيرة يصدر حكماً بعد نهاية القصّة، مستمدّاً منها. و لهجة الحكم تقتضي أسلوباً موسيقياً غير أسلوب الاستعراض، وتقتضي إيقاعاً قويّاً رصيناً، بدل إيقاع القصّة الرّخيّ المسترسل، وكأنّما لهذا كان التغير. ونحن نستأنس في هذا الاستنباط بملاحظة أخرى. ذلك أنّه بمجرد الانتهاء من إصدار هذا الحكم، وإلقاء ذلك القرار، عاد إلى النظام الأوّل في القافية والفاصلة، لأنّه عاد إلى قصص جديد ..»[viii]
ومن الملاحظ على سيد قطب أنه لا يتورع في استعمال مصطلحات تخص حقولا معرفية مختلفة،(منها القافية، والروي، والمشهد،..) وقد أوضح في أكثر من موضع في كتبه أنه يهتم بقراءة النص القرآني بعيدا عن تعقيدات اللغويين وقواعد النحويين وتفريعات الفقه وأصوله، مما عهدته الدراسات القرآنية قديما وحديثا.[ix]
4.مخالفة القاعدة:
و من الأمور التي تؤثّر في إيقاع القصّة العام، مخالفة القاعدة العامّة في التركيب اللغوي. من أمثلة ذلك ما جاء في قوله تعالى: ﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)... ﴾[x]
« فقد خطفت ياء المتكلّم في " يَهْدِينِ، ويَسْقِينِ، ويَشْفِينِ، ويُحْيِينِ " محافظة على حرف القافية مع " تَعْبُدُونَ والْأَقْدَمُونَ ، والدِّينِ ، ..." ومثله خطف الياء الأصليّة في الكلمة نحو:﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)... ﴾[xi] ومثل:﴿ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)... ﴾[xii]فإذا أنت لم تخطف الياء في " الدّاع " أحسست ما يشبه الكسر في وزن الشعر. ومثله: ﴿ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا. ﴾[xiii] فلو مددت ياء نبغي كما هو القياس لاختلّ الوزن نوعاً من الاختلال.»[xiv]
وحتى يثبت سيّد قطب الأثر الإيقاعي في الأسلوب القصصي القرآني واختلافه عن باقي الأغراض في القرآن يقارنه،أحيانا، مع غيره من الأغراض، تارة في السّور ة الواحدة وتارة أخرى في السور المختلفة. وفيما يلي مقارنة بين سورتي الأنعام والأعراف:«فالتعبير في كل سورة يناسب منهاجها في عرض الموضوع. وبينما يمضي السّياق في الأنعام في موجات متدافعة، وبينما تبلغ المشاهد دائما درجة اللألاء والتوهج والإلتماع. وتبلغ الإيقاعات درجة الرّنين والسرعة القاصفة والاندفاع .. إذ السياق في الأعراف يمضي هادئ الخطو، سهل الإيقاع، تقريري الأسلوب. وكأنّما هو الوصف المصاحب للقافلة في سيرها المديد، خطوة خطوة، ومرحلة، مرحلة، حتى تؤوب ! وقد يشتدّ الإيقاع أحياناً في مواقف التعقيد ولكنّه سرعان ما يعود إلى الخطو الوئيد الرتيب ! .. وهما ، بعد، سورتان مكّيتان من القرآن... !!!»[xv]
مثلما نجده يقارن بين أسلوب القصّة الإيقاعي وأسلوب آخر في السورة الواحدة:« في سورة النّازعات أسلوبان موسيقيان، وإيقاعان ينسجمان مع جوّين فيهما تمام الانسجام. أولهما يظهر في هذه المقطوعة السريعة الحركة القصيرة الموجة، القويّة المبنى، تنسجم مع جوّ مكهرب، سريع النّبض شديد الارتجاف، على النّحو التالي:
﴿ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)﴾[xvi] والثاني يظهر في هذه المقطوعة، الوانية الحركة الرّخيّة الموجة، المتوسطة الطول، تنسجم مع الجوّ القصصي الذي يلي مباشرة في السّورة حديث الكرّة الخاسرة والزّجرة الواحدة وحديث السّاهرة على النحو التالي:﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) ؟ ﴾[xvii]...إلخ أظنّ أنّنا لسنا في حاجة إلى قواعد موسيقية، و لا إلى اصطلاحات فنيّة لتدرك الفرق بين الأسلوبين والإيقاعيين فهو واضح لا يخفى.» [xviii]
كان هذا أسلوب من أساليب سيّد قطب في عرض الظّاهرة الإيقاعية في القرآن، والواضح أنه يميز بين نوعين من الإيقاع القرآني عموما؛ وهما الإيقاع (السريع)، والإيقاع ( المتراخي). وهذا بالنظر إلى الفواصل القرآنية؛ فإذا كانت الفواصل قصيرة جاء الإيقاع (سريعا)، حتى ولو تألف من أصوات ممتدة الأزمان. أما إذا كانت الفواصل طويلة جاء الإيقاع (متراخيا)، وهو ما يميز القصة القرآنية عند سيد قطب، بغض النظر عما إذا كانت الأصوات الناظمة لها قصيرة أو طويلة الأزمان. تمكن صاحب "الظلال" من خلال دراسته للإيقاع القرآني من اكتشاف الإيقاع الذي اختصت به القصة القرآنية، وانفردت به عن باقي أشكال الخطاب القرآني. وذلك من دون أن نغفل عن تلك الموسيقى (الداخلية) التي تنتج من انسجام الأصوات في الكلمات، ومن انتظام الكلمات في تراكيب معجزة. وقد يكون للحدث في القصّة إيقاعاً خاصّاً؛ وتختلف كلّ هذه الإيقاعات في القصّة الواحدة، ولكن الخيط الإيقاعي الأصيل الذي يربطها يبقى في القصّة من أوّلها إلى آخرها، ليعطيها شخصيّتها المتميّزة وبصمتها المتفردة التي لا تجدها في قصّة غيرها حتى ولو حملت نفس موضوعها واختلفت عنها في موقعها.
الهوامش:
سورة النازعات.[i]
سيد قطب، في ظلال القرآن ج 06، ص3811.[ii]
سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، ص 106،107.[iii]
سورة النمل.[iv]
محمد طول، البنية السردية في القصص القرآني، ص 193.[v]
سورة مريم، الآية 04.[vi]
سورة مريم.[vii]
سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، ص 108،109.[viii]
[ix] انظر: سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، ص9، من قوله:« لقد بدأت البحث و مرجعي الأول فيه هو المصحف،..»، وكتاب "مشاهد القيامة"، ص9، في قوله:« .. لم أحاول أن أعقدها بالتأويلات البعيدة،..»
سورة الشعر اء.[x]
سورة الفجر.[xi]
سورة القمر.[xii]
سورة الكهف، الآية 64.[xiii]
سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، ص105،106.[xiv]
سيد قطب، في ظلال القرآن ، ( دار الشروق، القاهرة/ بيروت،ط15، 1408هـ/ 1988م)، ج03، ص 1245.[xv]
سورة النازعات.[xvi]
سورة النازعات.[xvii]
قطب، التصوير الفني في القرآن، ص 111،1سيد 12.[xviii]