التلقي الإيقاعي القرآني عند سيد قطب: دراسة في الإيقاع الكلي.3

0





يخضع أسلوب الإيقاع السردي في القصص القرآني عند سيد قطب لعدة أنماط لغوية أذكر منها: 

1.تخيّر الأصوات: 

     تنبه سيد قطب إلى أن القصة في القرآن ذات إيقاع هادئ، ورخيّ، يبدو مطرداً في كل القصص القرآني، ويعدّه سمة عامة لأسلوب التعبير القصصي في القرآن:« ومن هنالك .. من هذا الجو الرّاجف الواجف المبهور المذعور.. يأخذ في عرض مصرع من مصارع المكذّبين العتاة في حلقة من قصّة موسى مع فرعون. فيهدأ الإيقاع الموسيقي ويسترخي شيئاً ما، ليناسب جوّ الحكاية والعرض:﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)[i]وبهذا يلتقي ويمهد لتلك الحقيقة الكبرى. »[ii]

    الإيقاع (الرّخيّ) الممتد الأزمان ليس بالأمر الثابت في القصّة القرآنية، فقد ينتابها شيء من التسارع في الإيقاع فتستعمل الأصوات القصيرة الأزمان تبعاً لإيقاع السّورة العام، ثم إنّ التركيب الذي يسبق القصّة القرآنية، والذي يلحقها هو الذي يحدّد نوع الإيقاع الذي يركّبها، فتتكامل عناصر الجمال الفنّي في النّسق القرآني. إنّه الأمر الذي سعى سيّد قطب لإثباته وكشف خصائصه، فوجد أنّ القصّة لها تركيب متخصص يجعل لها إيقاعاً عاماً يحكمها، ويبدأ من الجملة الموسيقية التي تتركب منها عناصر القصّة فتتآلف الجمل فيما بينها، لتعطي إيقاعاً عامّا وموسيقى متميزة ينتبه لها القارئ المتمرّس من أوّل وهلة.« على أنّ هناك نوعاً من الموسيقى الدّاخلية يلحظ ولا يشرح، كما أسلفنا، وهو كامن في نسيج اللّفظة المفردة، وتركيب الجملة الواحدة. وهو يدرك بحاسّة خفيّة وهبة لدنية. وهكذا تتبدى تلك الموسيقى الدّاخلية في بناء التعبير القرآني، موزونة بميزان شديد الحساسية.»[iii]

2.تخيّر الألفاظ: 

     للتركيب اللّفظي وتخيّر الألفاظ دور كبير في إعطاء القصّة طابعاً إيقاعياً عامّاً يحكمها؛ ذلك أن اختيار الألفاظ وفق أسلوب محدد يعطي الإيقاع تميزه.« ومن أمثلة التوافق الصّوتي في أسلوب السّرد القصصي كذلك ما جاء في قوله تعالى على لسان الهدهد: ﴿وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)[iv]فلقد جاور السرد بين كلمتين" سبأ " و" نبأ " لتساويهما في حروفهما، وتوازنهما في موسيقاهما، حتى يعطي للأسلوب شكلاً أكثر توافقاً وانسجاماً، وللمعنى عمقاً أبعد، ودلالة أوسع.»[v] ونلاحظ ذلك في قوله تعالى على لسان زكريّا عليه السلام:﴿ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [vi] والأثر الذي يتركه التركيب اللّفظي الخاص في النسق القرآني ملحوظ لا يمكن إغفاله، وذلك في ترتيب ( إني) و(مني) على ذلك الشكل . 

3.تخيّر الأسلوب( تركيب القصص، تغير الفاصلة..): 

       كما أن أسلوب القصّ وطريقة تركيب القصص مع بعضها في القرآن كذلك يفرض نوع الإيقاع القصصي السائد: « فمن المواضع التي لاحظنا فيها أنّ تغيّر نظام الفاصلة والقافية يعني شيئاً خاصّاً ما جاء به في سورة مريم. فالسّورة تبدأ بقصّة زكريّا عليه السلام ويحيى، وتليها قصّة مريم و عيسى، وتسير الفاصلة والقافية هكذا:﴿ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)[vii]... الخ. 
﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)﴾... الخ. إلى أن تنتهي القصّتان على روي واحد، وفجأة يتغيّر هذا النسق بعد آخر فقرة في قصّة عيسى على النّحو التالي: ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) (...)ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ... الخ ﴾ و هكذا يتغيٍّر نظام الفاصلة فتطول، ويتغيّر نظام القافية فتصبح بحرف النون أو بحرف الميم وقبلهما مدّ طويل. وكأنّما هو في هذه الآيات الأخيرة يصدر حكماً بعد نهاية القصّة، مستمدّاً منها. و لهجة الحكم تقتضي أسلوباً موسيقياً غير أسلوب الاستعراض، وتقتضي إيقاعاً قويّاً رصيناً، بدل إيقاع القصّة الرّخيّ المسترسل، وكأنّما لهذا كان التغير. ونحن نستأنس في هذا الاستنباط بملاحظة أخرى. ذلك أنّه بمجرد الانتهاء من إصدار هذا الحكم، وإلقاء ذلك القرار، عاد إلى النظام الأوّل في القافية والفاصلة، لأنّه عاد إلى قصص جديد ..»[viii]

     ومن الملاحظ على سيد قطب أنه لا يتورع في استعمال مصطلحات تخص حقولا معرفية مختلفة،(منها القافية، والروي، والمشهد،..) وقد أوضح في أكثر من موضع في كتبه أنه يهتم بقراءة النص القرآني بعيدا عن تعقيدات اللغويين وقواعد النحويين وتفريعات الفقه وأصوله، مما عهدته الدراسات القرآنية قديما وحديثا.[ix]

4.مخالفة القاعدة: 

      و من الأمور التي تؤثّر في إيقاع القصّة العام، مخالفة القاعدة العامّة في التركيب اللغوي. من أمثلة ذلك ما جاء في قوله تعالى: ﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)... ﴾[x]

« فقد خطفت ياء المتكلّم في " يَهْدِينِ، ويَسْقِينِ، ويَشْفِينِ، ويُحْيِينِ " محافظة على حرف القافية مع " تَعْبُدُونَ والْأَقْدَمُونَ ، والدِّينِ ، ..." ومثله خطف الياء الأصليّة في الكلمة نحو:﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)... ﴾[xi] ومثل:﴿ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)... ﴾[xii]فإذا أنت لم تخطف الياء في " الدّاع " أحسست ما يشبه الكسر في وزن الشعر. ومثله: ﴿ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا. [xiii] فلو مددت ياء نبغي كما هو القياس لاختلّ الوزن نوعاً من الاختلال.»[xiv]

       وحتى يثبت سيّد قطب الأثر الإيقاعي في الأسلوب القصصي القرآني واختلافه عن باقي الأغراض في القرآن يقارنه،أحيانا، مع غيره من الأغراض، تارة في السّور ة الواحدة وتارة أخرى في السور المختلفة. وفيما يلي مقارنة بين سورتي الأنعام والأعراف:«فالتعبير في كل سورة يناسب منهاجها في عرض الموضوع. وبينما يمضي السّياق في الأنعام في موجات متدافعة، وبينما تبلغ المشاهد دائما درجة اللألاء والتوهج والإلتماع. وتبلغ الإيقاعات درجة الرّنين والسرعة القاصفة والاندفاع .. إذ السياق في الأعراف يمضي هادئ الخطو، سهل الإيقاع، تقريري الأسلوب. وكأنّما هو الوصف المصاحب للقافلة في سيرها المديد، خطوة خطوة، ومرحلة، مرحلة، حتى تؤوب ! وقد يشتدّ الإيقاع أحياناً في مواقف التعقيد ولكنّه سرعان ما يعود إلى الخطو الوئيد الرتيب ! .. وهما ، بعد، سورتان مكّيتان من القرآن... !!!»[xv]

      مثلما نجده يقارن بين أسلوب القصّة الإيقاعي وأسلوب آخر في السورة الواحدة:« في سورة النّازعات أسلوبان موسيقيان، وإيقاعان ينسجمان مع جوّين فيهما تمام الانسجام. أولهما يظهر في هذه المقطوعة السريعة الحركة القصيرة الموجة، القويّة المبنى، تنسجم مع جوّ مكهرب، سريع النّبض شديد الارتجاف، على النّحو التالي: 

﴿ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)[xvi] والثاني يظهر في هذه المقطوعة، الوانية الحركة الرّخيّة الموجة، المتوسطة الطول، تنسجم مع الجوّ القصصي الذي يلي مباشرة في السّورة حديث الكرّة الخاسرة والزّجرة الواحدة وحديث السّاهرة على النحو التالي:﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) ؟ [xvii]...إلخ أظنّ أنّنا لسنا في حاجة إلى قواعد موسيقية، و لا إلى اصطلاحات فنيّة لتدرك الفرق بين الأسلوبين والإيقاعيين فهو واضح لا يخفى.» [xviii]

      كان هذا أسلوب من أساليب سيّد قطب في عرض الظّاهرة الإيقاعية في القرآن، والواضح أنه يميز بين نوعين من الإيقاع القرآني عموما؛ وهما الإيقاع (السريع)، والإيقاع ( المتراخي). وهذا بالنظر إلى الفواصل القرآنية؛ فإذا كانت الفواصل قصيرة جاء الإيقاع (سريعا)، حتى ولو تألف من أصوات ممتدة الأزمان. أما إذا كانت الفواصل طويلة جاء الإيقاع (متراخيا)، وهو ما يميز القصة القرآنية عند سيد قطب، بغض النظر عما إذا كانت الأصوات الناظمة لها قصيرة أو طويلة الأزمان. تمكن صاحب "الظلال" من خلال دراسته للإيقاع القرآني من اكتشاف الإيقاع الذي اختصت به القصة القرآنية، وانفردت به عن باقي أشكال الخطاب القرآني. وذلك من دون أن نغفل عن تلك الموسيقى (الداخلية) التي تنتج من انسجام الأصوات في الكلمات، ومن انتظام الكلمات في تراكيب معجزة. وقد يكون للحدث في القصّة إيقاعاً خاصّاً؛ وتختلف كلّ هذه الإيقاعات في القصّة الواحدة، ولكن الخيط الإيقاعي الأصيل الذي يربطها يبقى في القصّة من أوّلها إلى آخرها، ليعطيها شخصيّتها المتميّزة وبصمتها المتفردة التي لا تجدها في قصّة غيرها حتى ولو حملت نفس موضوعها واختلفت عنها في موقعها. 


الهوامش:

سورة النازعات.[i] 
سيد قطب، في ظلال القرآن ج 06، ص3811.[ii] 
سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، ص 106،107.[iii] 
سورة النمل.[iv] 
محمد طول، البنية السردية في القصص القرآني، ص 193.[v] 
سورة مريم، الآية 04.[vi] 
سورة مريم.[vii] 
سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، ص 108،109.[viii] 
[ix] انظر: سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، ص9، من قوله:« لقد بدأت البحث و مرجعي الأول فيه هو المصحف،..»، وكتاب "مشاهد القيامة"، ص9، في قوله:« .. لم أحاول أن أعقدها بالتأويلات البعيدة،..» 
سورة الشعر اء.[x] 
سورة الفجر.[xi] 
سورة القمر.[xii] 
سورة الكهف، الآية 64.[xiii] 
سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، ص105،106.[xiv] 
سيد قطب، في ظلال القرآن ، ( دار الشروق، القاهرة/ بيروت،ط15، 1408هـ/ 1988م)، ج03، ص 1245.[xv] 
سورة النازعات.[xvi] 
سورة النازعات.[xvii] 

قطب، التصوير الفني في القرآن، ص 111،1سيد 12.[xviii] 




التلقي الإيقاعي القرآني عند سيد قطب: دراسة في الإيقاع الكلي.2

0


الإيقاع الكلي: 

     أعني بالإيقاع الكلي الإيقاعَ العام الذي يميّز حدثا بعينه عن باقي الأحداث، ويعطي القصة القرآنية صبغة عامة تنفرد بها عن باقي القصص أو يضفي على السورة الواحدة طابعا إيقاعيا متميزا يسري فيها من أولها إلى آخرها، بغض الطرف عن الموسيقى الداخلية التي آثرنا أن نسميها " الإيقاع الجزئي" الذي يتخلل كل من المستويات الثلاثة المذكورة آنفا من إيقاع صوتي أو لفظي أو تركيبي. والإيقاع الكلي يوجد بشكل بارز جدا في القرآن العظيم، وقد تناوله سيد قطب بشيء من التفصيل وبالأخص على مستوى القصة وعلى مستوى السورة.

أ.على مستوى الحدث:

      تبين لسيد قطب من خلال دراسته للإيقاع القرآني أن الحدث في القرآن العظيم ذو إيقاع يختص به، ويختلف فيه من سياق لآخر. وله من التأثير في نفس المتلقي ما لا يخفى، فمرّة يضفي عليه شعور الخوف والرعب، وبخاصة في مشاهد القيامة، أو مشاهد الأخذ بالأمم الغابرة ـ ومرّة يضفي عليه شعورا بالانبهار والتعجب، ومرّة يعطيه رنة الاطمئنان والسعادة، ومرّة أخرى يدفعه إلى الاعتبار. وفي هذا من الإحساس بالمتعة الجمالية ما فيه.

     تناول سيد قطب الأحداث القرآنية من جوانب مختلفة. لكن اهتمامه بها في مجال القصص القرآني كان أظهر، وبخاصة في فصل " القصة في القرآن"[i]في كتاب "التصوير الفني في القرآن". ينسجم الحدث بإيقاعه مع بقية العناصر المكونة للخطاب القرآني، لبناء النص المعجز؛ إذ إن سر إعجازه يتعلق بسر هذا الانسجام البديع. وقد تحدث سيد قطب عن مختلف الأحداث الواردة في القرآن الكريم، و أذكر منها:

أ.1.مشاهد القيامة:

      من بين الأحداث التي صورها القرآن ما يقع في اليوم الآخر من أهوال، وقد أفرد لها سيد قطب كتابا وسمه " مشاهد القيامة في القرآن"، يقول في قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)[ii]:« تلك الفقرات التي تصوّر العرض العسكري تشترك فيه جهنّم بموسيقاها المنتظمة الإيقاع، القوية التنغيم من البناء اللّفظي الشديد الأسس... يوم لا يعذّب أحد كعذاب الله، ولا يوثق أحد كوثاقه»[iii]فالموسيقى المنتظمة الإيقاع تصوّر انتظام الصفوف في ذلك الحدث العظيم، البعيد عن الإدراك. وقوة النبر، وشدة التنغيم في البناء اللّفظي تنبئ عن قوة الحدث وعظمة الموقف؛ موقف الحساب بعد أن تدك الأرض والجبال، وهما أعظم ما يراه الإنسان في مجاله البسيط.

     مشاهد القيامة في القرآن كثيرة، وهي في كل مرّة ذات شكل خاص، ولون متميز، وتصور الموقف من زاوية محددة. وفيما يلي مشهد التكوير:﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)... ﴾[iv]. « ويبدأ المشهد بحركة جائحة، وثورة ثائرة، وكأنّما انطلقت من عقالها المردة المدمرة، فراحت تقلب كل شيء، تهيج الساكن، وتروّعُ الآمن.. والموسيقى المصاحبة للمشهد سريعة الحركة، لاهثة الإيقاع تشترك بإيقاعها السريع في تصوير المشهد وتمثيله في الإحساس»[v]

      عبر سيّد قطب في قوله هذا عن تلك الصوّر التي ترتسم في خياله بمجرد استماع تلاوة القرآن وقراءة الآيات، فينقلها للملتقي مثلما تلقاها ويصفها وكأنها تقع أمامه، ويركز في حديثه على الجانب الإيقاعي للمشهد، وأثره في إحساس المتلقي، وعن دوره في التصوير؛ ذلك أن الإيقاع يؤدي دور التمثيل والتصوير بتجسيد المنظر في هيئة متحركة حيّة، ويؤدي دور التأثير في النفس بتحريك المشاعر وتفعيل الأحاسيس.

أ.2.مصارع الغابرين:

      ومن المشاهد التي يبدو فيها عامل الإيقاع جليا مصارع الغابرين، فقصة هلاك قوم من الأقوام الغابرة في القرآن عادة ما تكون ذات إيقاع موسيقى يعمُّ الحدث من أوّله إلى آخره، ليجعل له بصمة خاصة، ويغدو المتلقي حاضراً مستمعاً ومشاهداً؛ فالإيقاع يساعد في رسم الصورة في خيال المتلقي، لتبعث في نفسه حسّاً جمالياً مرهفاً، تمليه أدق النغمات الصوتية التي تكوّن الإيقاع الحدثي العام. ونجد هذا في وصف سيد قطب لحادثة " الطوفان "، مثلما ارتسمت في ذهنه بعد تلقيه لآيات الطوفان في سورة "هود":

« إن التكوين الموسيقي للجملة هنا يزيد على التموّج العمق والسعة، وفيه كذلك هول وشجى، إنها موسيقى الطوفان: ﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)[vi] إنّ التكوين الموسيقى للجملة ليذهب طولاً وعرضاً في عمق وارتفاع ليشترك في رسم الهول العريض العميق. والمدّات المتوالية المتنوعة في التكوين اللفظي للآية تساعد في إكمال الإيقاع وتكوينه واتساقه مع جو المشهد الرهيب العميق.»[vii] عبّر سيّد قطب عن التأثير الإيقاعي تعبيراً موسيقيا مثلما استقبلها خياله، إذ إنه يلتقط أدنى الحركات، وأدق التعابير، فيقارب بين الأمواج الحقيقية في حادث الطوفان ومدّات الإيقاع، وانقباضه التي يعدها موجة موسيقية تقابل الأمواج البحرية.

     قد تجتمع أحداث مختلفة عبر التاريخ في النسق القرآني، وتأخذ مع بعضها طابعاً إيقاعياً مثلما جاء في ختام سورة (ق):« ثم يجيء المقطع الأخير في السورة، فيه لمسة التاريخ ومصارع الغابرين. وفيه لمسة الكون المفتوح وكتابه المبين، وفيه لمسة البعث والحشر في مشهد جديد ومع هذه اللمسات التوجيه الموحي العميق للمشاعر والقلوب: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)... [viii]ومع أنّ هذه اللمسات كلّها قد سبقت في سياق السّورة إلاّ إنّها حين تعرض في الختام تعرض جديدة الإيقاع جديدة الوقع. بهذا التركيز وهذه السرعة. ويكون لها في الحس مذاق آخر غير مذاقها وهي مبسوطة مفصلة من قبل في السّورة. »[ix]

     تحدث سيد قطب هنا عن توالي الأحداث في النسق القرآني، وعن عجيب نظمها، فالأحداث السابق ذكرها تختلف في مواضيعها ولكن النظم القرآني جمعها فجاءت منسجمة متكاملة لتؤثر في نفس المتلقي، ولتحدث لديه استجابة بشكل من الأشكال، والقرآن بهذا يثبت إعجازه من هذه الوجهة.

ب- على مستوى القصّة:

    يأخذ الإيقاع في القصّة شكلاً خاصّاً يميّزها عن غيرها من الأجناس. وفي القرآن الكريم القصّة ذات أسلوب إيقاعي مميّز.«إنّ التوافق الصّوتي في أسلوب السّرد القصصي في القرآن لا تخلو منه عبارة واحدة، سواء كان هذا التوافق من حيث قران القريب بمثله، أو المتداول بمثله، وذلك مراعاة لحسن الجوار والمناسبة، وزيادة في الائتلاف والتوفيق.» [x]

     تتضمن القصة إيقاعاً حسّاساً قد لا يظهر في بادئ الأمر، ولكنّه يعطي القصّة طابعاً إيقاعياً موحداً تختصّ به عن باقي القصص في القرآن، أو حتى عن القصّة التي تحمل نفس موضوعها، ولكنّها تختلف عنها من حيث الموقع في السياق القرآني. إذ «تتساند أصوات الحروف فيما بينها، في الكلمة الواحدة والجملة، داخل أسلوب السّرد في القصص القرآني، لتؤلف نظماً موسيقياً متآلفا تآلف القطعة الموسيقية داخل إطار المنظومة الواحدة المتكاملة فلا تنافر بين وحداتها، ولا تعارض بين أجزائها.» [xi] يرى سيّد قطب أنّ التناسق الفنّي في القرآن، يظهر في إيقاع القصّة الواحدة، مثلما يظهر في غيرها،حيث أنها تتميز بإيقاع يشملها من البداية وحتى النهاية، يتحقق فيه الانسجام والتميز« حتى أنّ بعض الأصوات أو الحركات قد تكون ثقيلة في نفسها، لسبب من الأسباب، فإذا ضمّها الأسلوب السّردي في القصص القرآني لأصوات أخرى رأيت أصوات الأحرف والحركات التي قبلها، قد امتهدت طريقاً في اللسان واكتنفتها بضروب من النّغم الموسيقي، حتى إذا خرجت فيه، كانت أعذب شيء وأرقّه، وجاءت متمكّنة في موضعها، وكانت لهذا الموضع أولى الحركات بالخفّة والرّوعة.»[xii] و بهذا جاءت القصّة لتؤدّي دورها الإبلاغي السّردي، ودورها الديني، ودورها الجمالي الفنّي، الذي يبعث بتأثيره النّفسي الفعّال في نفوس المتلقين .
يتبع.......

الهوامش:

انظر: سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، ص143.[i]
سورة الفجر.[ii]
سيد قطب، مشاهد القيامة في القرآن، ( دار الشروق، القاهرة/ بيروت)، ص60 ، و كذا ينظر، التصوير الفني في القرآن، ص97.[iii]
سورة التكوير.[iv]
سيد قطب، مشاهد القيامة في القرآن، ص57.[v]
سورة هود.[vi]
سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، ص112،113.[vii]
سورة ق.[viii]
سيد قطب، في ظلال القرآن، ( دار الشروق، القاهرة/ بيروت،ط15، 1408هـ/ 1988م) ج06، ص 3366.[ix]
محمد طول، البنية السردية في القصص القرآني (ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1991م)، ص 195.[x]
[xi] محمد طول، البنية السردية في القصص القرآني، ص191.
محمد طول، البنية السردية، ص 191.[xii]

كيف تختزن أغنية واحدة مشاعر جيل بأكمله

0
عنوان أغنية راب للفنان الجزائري لطفي دوبل كانون من ألبومه الأول "كاميكاز" الذي أصدره مع رفيقه وهاب في ديسمبر من سنة 1997 م   (جيب الطرف) الحـــالة :  من قاع الإحباط , ومن ظلمة التهميش، تتعالى آهات الملايين من الشباب الرازح تحت وطأة القفر والبطالة… عندما تُصَدُ في وجوههم الأبواب كل الأبواب, عندما يعرض المستقبل عنهم ..عندما تطردهم الحياة ويتنكر لهم المجتمع .. (جيب الطرف) هو الحل عند الغالبية…ليس حلا للمشكلات وإنما هو الحل للعقل الواعي المدرك اليقظ, إنه الحل المتحلل الذي يحلل بقايا الوعي ويذيبها في رحيق أشبه بالعلقم لكنه أرحم, إنها فضاءات اللاوعي و اللا إدراك الواسعة التي تسع الهموم والطموحات جميعا.. ذلك أن عقل الشاب الواعي والمثقف سيعجز عن فهم وتفسير الحياة من حوله بالمنطق وحتى باللا منطق , سوف يعجز ثم يعجز ثم.. وفي خاتمة المطاف تصاب خلايا دماغه بعقدة تجاه كل ما هو منطقي في هذه الحياة, تجاه المفروض والمستحسن … يساوره الشك دائما كلما قابله القبيح والحسن وكأنما تلاشت الفروقات وذوت الملامح في مجاري الحياة التي لا ترحم وتصرف كل الأشياء مهما اختلفت إلى نهاية واحدة…

كتبت يوما ما من أيام عام 2010

عنوان أغنية راب للفنان الجزائري لطفي دوبل كانون من ألبومه الأول "كاميكاز" الذي أصدره مع رفيقه وهاب في ديسمبر من سنة 1997 م 

(جيب الطرف) الحـــالة :

من قاع الإحباط , ومن ظلمة التهميش، تتعالى آهات الملايين من الشباب الرازح تحت وطأة القفر والبطالة… عندما تُصَدُ في وجوههم الأبواب كل الأبواب, عندما يعرض المستقبل عنهم ..عندما تطردهم الحياة ويتنكر لهم المجتمع .. (جيب الطرف) هو الحل عند الغالبية…ليس حلا للمشكلات وإنما هو الحل للعقل الواعي المدرك اليقظ, إنه الحل المتحلل الذي يحلل بقايا الوعي ويذيبها في رحيق أشبه بالعلقم لكنه أرحم, إنها فضاءات اللاوعي و اللا إدراك الواسعة التي تسع الهموم والطموحات جميعا.. ذلك أن عقل الشاب الواعي والمثقف سيعجز عن فهم وتفسير الحياة من حوله بالمنطق وحتى باللا منطق , سوف يعجز ثم يعجز ثم.. وفي خاتمة المطاف تصاب خلايا دماغه بعقدة تجاه كل ما هو منطقي في هذه الحياة, تجاه المفروض والمستحسن … يساوره الشك دائما كلما قابله القبيح والحسن وكأنما تلاشت الفروقات وذوت الملامح في مجاري الحياة التي لا ترحم وتصرف كل الأشياء مهما اختلفت إلى نهاية واحدة…

(جيب الطرف) الأغـــنية :

يجب أن لا ننسى تلك الفترة السوداء من تاريخ البلد (الجزائر) حيث انضاف إلى سلة الهموم الثقيلة فتنة عمياء صعب على العالم في الخارج فهمها وتصور فظاعتها, فما بالك بمن عايشها وذاق مرارتها في الداخل …الفقر , البطالة , التهميش , والظلم جميعا كأنها لا تكفي لتطل أشباح الموت والغدر والقتل والاعتقال والتعذيب والاغتيال والرعب …. وهل هناك ما هو أسوء من ذلك كله ؟؟
….أجل … بربك جد لي من المسوغات ما استطعت تبيح لعقلي تقبل استهدافك لا لشيء إلا لكونك شابا.. تغدو مطاردا أين ماكنت حللت ام ارتحلت وفي الحافلة, وأنت عائد إلى والدتك الثكلى ينصب بينك وبينها حاجز مزيف ولأنك شاب لست متهما بل أنت التهمة,.. تُجَر إلى قارعة الممر ثم وبعد التكبير تُنحر كما تنحر البهائم.. .! .! .!
هي الفتنة العمياء خلطت ما كان في الأصل مبعثرًا … والشاب المثقف, العاري والجائع والمتشرد, مات إحساسه من شدة الخوف فلم يعد يخشى شيئا يجلس عند شاطئ البحر يرقب الضفة الأخرى حيث العالم الآخر بكل ما فيه, تجسدت الأحلام في صخور شاطئه وتوالدت الآمال بعدد حصى رمله أو هكذا يخيل إليه , برغم كل ما مر عليها لاتزال تلك النفس النابضة تحلم….

(جيب الطرف) النهـــــاية :

وفي الختام, أن تتواجد وسط التحديات ليس مهما بقدر وجود التحديات ذاتها بداخلك أنت, تحدي (جيب الطرف) لوحده يعتبر إنجازا , فمواجهة تناقضات الواقع بعقل واع يقظ بدلا من الهروب إلى مغارات اللاوعي هي شجاعة كبيرة تستحق لأجلها التقدير و الاحترام… ولأن الحياة تمر, سريعة كانت أم بطيئة, فالمعركة في النهاية معركة وقت, الظافر فيها من كان أكثر صبرا وجلدا..
أعتقد أن تاريخ تحديات الشباب الجزائري لا يختلف كثيرا عنه عند بقية الشباب العربي, خصوصا في العراق وفلسطين...


التلقي الإيقاعي القرآني عند سيد قطب: دراسة في الإيقاع الكلي.(منشور في مجلة الدراسات اللغوية والأدبية بماليزيا)

0



يعدّ الإيقاع أحد أهم المستويات البانية للخطاب الأدبي؛ وهو بهذا ذو تأثير بالغ في المتلقي على غرار المستويات الأخرى. ولا يكتسب تأثيره البالغ إلا إذا ارتبط بدلالة ما، أو دلالات تجعل منه مفهوما لدى المتلقي. والإيقاع في حقيقة الأمر عائد أصله إلى الطبيعة التي نعيش فيها ونتفاعل معها، فالكون كله يقوم على أساس من الإيقاع، إذ من المسلم به أن الإيقاع ضرب من التكرار ثم إن لهذا التكرار وقعٌ في النفس، إذا ما سار وفق نظام ما[i] أو اتبع نسقا مترددا ومتناغما، يثير فيها المتعة وينبه الإدراك إلى دلائل خفية. وينبغي الإشارة في هذا المقام إلى أن التكرار بغير قصد إليه يخرجه من دائرة الإيقاع الدال إلى الإيقاع العفوي الذي يتسم بمحدوديته الدلالية، وابتعاده عن الإيحاء[ii]

سيد قطب من النقّاد الذين اهتموا بالإيقاع القرآني. وقد توسع في دراسته إلى حد ما، بغية اكتشاف الخيط الناظم[iii] والسر الكامن وراءه والذي أعطاه سمته الإعجازية؛ فالإيقاع عنده أحد المكونات الأساسية في الخطاب القرآني، التي تسهم بقسط وافر في إعطاء النص القرآني جماليته[iv]. ذلك أن التعبير القرآني بالنسبة إليه تشكيل متكامل ومتسق، يعود ذلك إلى انسجام وتواؤم كل مستوياته[v] فيما بينها؛ وذلك حينما تحدث عن الإيقاع بوصفه ركيزة أساسية في بناء الصورة الفنية القرآنية، ونجد ذلك في فصل 'التناسق الفني' في كتاب "التصوير الفني في القرآن"[vi]

تجلى اهتمام سيد قطب بالإيقاع القرآني في مؤلفاته المتعلقة بالقرآن العظيم، وبخاصة في مؤلفيه " في ظلال القرآن" و"التصوير الفني في القرآن"؛ فأفرد له مصطلحات خاصة يجدها القارئ متناثرة في كتاباته كالجرس، والإيقاع، والأمواج الموسيقية، والجملة الموسيقية،....« و لا ضرر من نسبة الجرس والإيقاع أو الموسيقى إلى أسلوب القرآن، وأن نلحظ وجودها فيه، وأن نبيّنها للناس كافة، لأنّ القرآن الكريم يسير على سنن العربية، وأساليبها في التعبير. »[vii]

إن تمكن سيد قطب من العربية ومعرفته بأسرارها يسّر له الغوص في دلالات القرآن العظيم والتفاته إلى لمساته الجمالية في جوانب عدّة من بينها الإيقاع، الذي يعدّ من أظهر سمات القرآن الجمالية والتي أعجزت أوائل المتلقين. وبذلك شملت دراساته عديدا من الجوانب الإيقاعية في القرآن العظيم. ويمكن تصنيفها في نوعين من الإيقاع؛ أحدهما اصطلحنا على تسميته الإيقاع الجزئي والثاني الإيقاع الكلي. وتندرج تحت كل منهما مستويات إيقاعية تدخل ضمن علم الأصوات العام Phonétique وعلم الأصوات الوظيفي Phonologie . 

تعرض صاحب الظلال في الإيقاع الجزئي( الذي يقابل الإيقاع الداخلي في الشعر) للمستويات الإيقاعية المعهودة في علم الأصوات العام وهي مستوى الصوت، ومستوى الكلمة، ومستوى التركيب؛ وقد تعرض لها في سياق حديثه عن أساليب القرآن التعبيرية المختلفة، دون الإشارة إليها بشكل مباشر. ويمثل الإيقاع الكلي، الإيقاعَ العام الذي يحكم حدثا بعينه أو قصة أو سورة، فتبدو ذات إيقاع يخضع لنظام موسيقي واحد تتسم به. 

الإيقاع الكلي: 

أعني بالإيقاع الكلي الإيقاعَ العام الذي يميّز حدثا بعينه عن باقي الأحداث، ويعطي القصة القرآنية صبغة عامة تنفرد بها عن باقي القصص أو يضفي على السورة الواحدة طابعا إيقاعيا متميزا يسري فيها من أولها إلى آخرها، بغض الطرف عن الموسيقى الداخلية التي آثرنا أن نسميها " الإيقاع الجزئي" الذي يتخلل كل من المستويات الثلاثة المذكورة آنفا من إيقاع صوتي أو لفظي أو تركيبي. والإيقاع الكلي يوجد بشكل بارز جدا في القرآن العظيم، وقد تناوله سيد قطب بشيء من التفصيل وبالأخص على مستوى القصة وعلى مستوى السورة. 


المراجع:

انظر: عبد الملك مرتاض، نظرية القراءة، تأسيس للنظرية العامة للقراءة الأدبية، ( دار الغرب للنشر و التوزيع، 2003)، ص 226، 227.[i]


للتوسع في موضوع التكرار و علاقته بالإيقاع انظر: مختار حبار، الشعر الصوفي القديم في الجزائر، إيقاعه الداخلي و وظيفته، (ديوان المطبوعات الجامعية، وهران، 1997م)، ص 14، 15.[ii]


انظر: سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، ط7، (دار الشروق، 1402ه/1982م)، ص87.[iii]


انظر: سيد قطب، في ظلال القرآن، ط17، (القاهرة، بيروت: دار الشروق، 1412ه)، ج2، ص 1152[iv]


[v] و أعني بالمستويات هنا ما عده سيد قطب (أركان) المشهد القرآني، وهي (الصورة، والحركة، والإيقاع)،أنظر: سيد قطب، مشاهد القيامة في القرآن، ط16، (القاهرة: دار الشروق، 1427ه/ 2006م)، ص10.



انظر: سيد قطب،التصوير الفني في القرآن، ص87. و كتاب: في ظلال القرآن، ج2، ص 1151. وكتاب: مشاهد القيامة في القرآن، ص8.[vi]


صلاح عبد الفتاح الخالدي، نظرية التصوير الفني في القرآن( شركة الشهاب. الجزائر)، ص97.[vii]
يتم التشغيل بواسطة Blogger.