يعدّ الإيقاع أحد أهم المستويات البانية للخطاب الأدبي؛ وهو بهذا ذو تأثير بالغ في المتلقي على غرار المستويات الأخرى. ولا يكتسب تأثيره البالغ إلا إذا ارتبط بدلالة ما، أو دلالات تجعل منه مفهوما لدى المتلقي. والإيقاع في حقيقة الأمر عائد أصله إلى الطبيعة التي نعيش فيها ونتفاعل معها، فالكون كله يقوم على أساس من الإيقاع، إذ من المسلم به أن الإيقاع ضرب من التكرار ثم إن لهذا التكرار وقعٌ في النفس، إذا ما سار وفق نظام ما[i] أو اتبع نسقا مترددا ومتناغما، يثير فيها المتعة وينبه الإدراك إلى دلائل خفية. وينبغي الإشارة في هذا المقام إلى أن التكرار بغير قصد إليه يخرجه من دائرة الإيقاع الدال إلى الإيقاع العفوي الذي يتسم بمحدوديته الدلالية، وابتعاده عن الإيحاء[ii].
سيد قطب من النقّاد الذين اهتموا بالإيقاع القرآني. وقد توسع في دراسته إلى حد ما، بغية اكتشاف الخيط الناظم[iii] والسر الكامن وراءه والذي أعطاه سمته الإعجازية؛ فالإيقاع عنده أحد المكونات الأساسية في الخطاب القرآني، التي تسهم بقسط وافر في إعطاء النص القرآني جماليته[iv]. ذلك أن التعبير القرآني بالنسبة إليه تشكيل متكامل ومتسق، يعود ذلك إلى انسجام وتواؤم كل مستوياته[v] فيما بينها؛ وذلك حينما تحدث عن الإيقاع بوصفه ركيزة أساسية في بناء الصورة الفنية القرآنية، ونجد ذلك في فصل 'التناسق الفني' في كتاب "التصوير الفني في القرآن"[vi].
تجلى اهتمام سيد قطب بالإيقاع القرآني في مؤلفاته المتعلقة بالقرآن العظيم، وبخاصة في مؤلفيه " في ظلال القرآن" و"التصوير الفني في القرآن"؛ فأفرد له مصطلحات خاصة يجدها القارئ متناثرة في كتاباته كالجرس، والإيقاع، والأمواج الموسيقية، والجملة الموسيقية،....« و لا ضرر من نسبة الجرس والإيقاع أو الموسيقى إلى أسلوب القرآن، وأن نلحظ وجودها فيه، وأن نبيّنها للناس كافة، لأنّ القرآن الكريم يسير على سنن العربية، وأساليبها في التعبير. »[vii]
إن تمكن سيد قطب من العربية ومعرفته بأسرارها يسّر له الغوص في دلالات القرآن العظيم والتفاته إلى لمساته الجمالية في جوانب عدّة من بينها الإيقاع، الذي يعدّ من أظهر سمات القرآن الجمالية والتي أعجزت أوائل المتلقين. وبذلك شملت دراساته عديدا من الجوانب الإيقاعية في القرآن العظيم. ويمكن تصنيفها في نوعين من الإيقاع؛ أحدهما اصطلحنا على تسميته الإيقاع الجزئي والثاني الإيقاع الكلي. وتندرج تحت كل منهما مستويات إيقاعية تدخل ضمن علم الأصوات العام Phonétique وعلم الأصوات الوظيفي Phonologie .
تعرض صاحب الظلال في الإيقاع الجزئي( الذي يقابل الإيقاع الداخلي في الشعر) للمستويات الإيقاعية المعهودة في علم الأصوات العام وهي مستوى الصوت، ومستوى الكلمة، ومستوى التركيب؛ وقد تعرض لها في سياق حديثه عن أساليب القرآن التعبيرية المختلفة، دون الإشارة إليها بشكل مباشر. ويمثل الإيقاع الكلي، الإيقاعَ العام الذي يحكم حدثا بعينه أو قصة أو سورة، فتبدو ذات إيقاع يخضع لنظام موسيقي واحد تتسم به.
الإيقاع الكلي:
أعني بالإيقاع الكلي الإيقاعَ العام الذي يميّز حدثا بعينه عن باقي الأحداث، ويعطي القصة القرآنية صبغة عامة تنفرد بها عن باقي القصص أو يضفي على السورة الواحدة طابعا إيقاعيا متميزا يسري فيها من أولها إلى آخرها، بغض الطرف عن الموسيقى الداخلية التي آثرنا أن نسميها " الإيقاع الجزئي" الذي يتخلل كل من المستويات الثلاثة المذكورة آنفا من إيقاع صوتي أو لفظي أو تركيبي. والإيقاع الكلي يوجد بشكل بارز جدا في القرآن العظيم، وقد تناوله سيد قطب بشيء من التفصيل وبالأخص على مستوى القصة وعلى مستوى السورة.
المراجع:
انظر: عبد الملك مرتاض، نظرية القراءة، تأسيس للنظرية العامة للقراءة الأدبية، ( دار الغرب للنشر و التوزيع، 2003)، ص 226، 227.[i]
للتوسع في موضوع التكرار و علاقته بالإيقاع انظر: مختار حبار، الشعر الصوفي القديم في الجزائر، إيقاعه الداخلي و وظيفته، (ديوان المطبوعات الجامعية، وهران، 1997م)، ص 14، 15.[ii]
[v] و أعني بالمستويات هنا ما عده سيد قطب (أركان) المشهد القرآني، وهي (الصورة، والحركة، والإيقاع)،أنظر: سيد قطب، مشاهد القيامة في القرآن، ط16، (القاهرة: دار الشروق، 1427ه/ 2006م)، ص10.
انظر: سيد قطب،التصوير الفني في القرآن، ص87. و كتاب: في ظلال القرآن، ج2، ص 1151. وكتاب: مشاهد القيامة في القرآن، ص8.[vi]