باسكال في كاليفورنيا -4- الحياة لن تنتهي هنا

0
الحياة لن تنتهي هنا  في شيكاغوا عاد بيلي مع أمه إلى البيت بعد فترة وجيزة في المستشفى وبعد أن شارفت امه على الاستسلام لشلله الدائم لا تزال على الاتصال بالأطباء تتبع بصيص الامل في علاج ابنها ... في البيت لا يكف أصدقاء العائلة عن التوافد لزيارة بيلي ... والدا بول أيضا ورغم مصابهما أقبلا لرؤيته وكم كان اللقاء مؤثرا مفعما بالمشاعر... وفي مساء أحد الأيام طرق الباب طارق ، ففتحت الأم وإذا بالعجوز ريتشارد صاحب المحل يحمل في يده باقة من الورد يستأذن في زيارة بيلي ، وكان التأثر باديا عليه .. تقدم وقبل بيلي كأب عطوف وابتسم : فلتكن شجاعا يا باسكال .. الحياة لن تنتهي هنا .. هذا لطف منك .. مستر ريتش .. سرتني فعلا زيارتك  ثم اغرورقت عينا العجوز بالدموع فقام يريد الانصراف ، ورغم توسلات بيلي وإلحاح الام عليه بالبقاء إلا أنه أصر متعذرا بحاجيات المحل ..  بعد أيام أصر بيلي على الخروج من المنزل بكرسيه المتحرك لوحده ، فلم تجد الأم بدا من منعه، فسمحت له شريطة أن لا يبتعد .. فخرج يدحرج عجلاته على رصيف الحي ، يحيي من يلقاه من الأصحاب والجيران ثم بدرت بذهنه خاطرة في زيارة محل العجوز ريتشارد ، فانحدر نحوه .. ولما دفع الباب ودخل، أقبل عليه العجوز مستبشرا وهو يقول : باسكال ... كم أنا سعيد برؤيتك هنا  وأخذ بكرسيه يجره إلى داخل مخدعه المتواضع ثم استأذن بيلي في أن يغلق باب المحل حتى لا يقطع أي زبون جلستهما ... جئت لأشكرك على لفتتك الكريمة بزيارتي ذلك المساء ذاك من الواجب ... حدثني باسكال عن كاليفورنيا والعمل هناك (وأخذ يحضر شيئا من القهوة في مطبخه الصغير) لقد التحقت انا وبول بمعهد سيتي للاستماع وهو تابع لناسا ، في إطار برنامج ضخم لاكتشاف الفضاء ورصد الحياة في المجموعات الشمسية المشابهة لمجموعتنا ... في معهدنا يتركز بحثنا عن الحياة باستقبال الإشارات والرسائل التي ربما تكون قد أرسلت من قبل حضارات متطورة .. نبحث في تفاصيل الموجات والترددات، و البرنامج الذي طورته أنا وبول يغطي جانبا من هذه الموجات بالأخص منها ذات التردد المتراكب .. إذا فأنتم تبحثون عن الحياة في السماء .. أجل .. يمكنك قول هذا ... فالعلم أثبت أن الحياة ليست بدعة على الأرض .. كيف ذلك ..؟ الحياة على الأرض .. ليست إلا بذرة جاءت من أقاصي الكون ، غرستها المذنبات هنا منذ دهر بعيد .. لكنها مجرد فكرة أوحى بها فلم حرب النجوم ، وليست حتى نظرية .. مستر ريتش .. بمعادلات إحتمالية ، لا يمكن أن يبقى لدينا شك في أن الكون يعج بالحياة .. إسمع باسكال .. (وجلس يقدم كوبا من القهوة إليه) .. فكرة بذور الحياة هذه ، جاءت ردا على العجز المريع الذي منيت به فكرة تكوّن الحياة هنا على الأرض من اخلاط كيمياوية بالصدفة ... الحياة أعقد من أن تركب هكذا في المخبر ... لأجل ذلك ففكرة بذرة خيالية تحمل هذا التركيب الغامض تأتي من أقاصي الكون أصبحت بديلا .. لكنها ليست الحقيقة .. وماهي الحقيقة ..؟؟ الحقيقة ..هي أن الحياة معجزة ... إنها معقدة للغاية ، إن خلية الكائن الحي أعقد بكثير من جميع منتجات التكنلوجيا التي صنعها الإنسان في وقتنا الحاضر و لا يمكن إنتاج خلية واحدة بتجميع مواد غير حية في أكبر المعامل المتطورة في العالم .. و بالاحتمالات التي تكلمت عنها .. خذ مثلا احتمالية تكوين بروتين متوسط له خمس مئة حمض أميني هي 1 من 10 950، إنها تعد مستحيلا على أرض الواقع ... ماذا يعني كل هذا ..؟ هذا يعني أن ظهور الحياة هكذا مصادفة شيء مستحيل .. يجب علينا يا باسكال أن نعترف بقوة عظيمة خلقت الحياة لا أن نهرب نحو الأمام باحثين عن وهم آخر ... إنك تتكلم عن الأشياء السماوية التي رفضها نيتشه ... نعم باسكال ، رفضها نيتشه باسم العلم ، والعلم نفسه يرفض أفكاره اليوم، العلم اليوم يبحث عنها ليجد إجابات الحياة الخالدة ،... صدقني باسكال ، أنتم تبحثون عن الله في السماء .. (فانتبه باسكال إليه وحدق بعينيه) كيف ذلك مستر ريتش ..؟ أنتم تبحثون عن الحياة في السماء ..؟ .. أجيبك وأقول لك بكل صدق .. نعم هناك حياة وحضارة أعظم مما نتصور جميعا ... إنها تختفي خلف ذلك الستار المظلم من المادة الكونية ... أنتم تنتظرون إشارة تواصل من تلك الحضارات ..؟ .. أجيبك بان تلك الحضارات راسلتنا أكثر من مرة لكننا لم نجبها ، وكنا دائما نستهزئ بمن يحدثنا أن السماء قد كلمته  .. باسكال .. العالم قد يقوم ولا يقعد إن علم أن مخلوقا من الفضاء نزل يوما إلى الأرض ، بينما وفي الحقيقة نحن مخلوقات فضائية غزونا هذه الأرض ، فخربناها ونوشك ان ندمرها ... نيتشه أقسم بالتشبث بالأرض ظنا منه أنها أصله الأول والأخير ... لكن علم الجينات اليوم يثبت بالدليل القاطع أن سلسلة مورثات كل البشر على الأرض مترابطة وتنتهي في أصلها إلى رجل واحد وامرأة واحدة ، إلى آدم وحواء ... إذا فنحن مخلوقات فضائية .. فمن أي كوكب جئنا ..؟ من كوكب الجنة، باسكال ... ليس أمامك من سبيل إلا أن تؤمن بهذا... ، بأن بول قد غادرنا ليعود إلى ذلك الكوكب الجميل ..، وبأننا سوف نلحق به يوما ما  هذا شيء جميل .. لكنك تحدثت عن رسائل وصلتنا من تلك الحضارة .. ماذا عنها ؟؟ نعم .. ومثلما قال نيتشه، فسر الوجود لن يكلم الإنسان إلا كإنسان ....(ثم طأطأ رأسه) ،أعلم .. أعلم - باسكال - أني ربما قد أثقلت عليك ، وانك ربما لن تستطيع هضم ما أقول جيدا ،لكنها آفتنا في هذا البلد ...، هكذا كان يصرخ أحد باحثي جامعة هارفارد "لا يمكن أبدا أن نسمح للتفسيرات الإلهية، أن تقفز إلى واجهة الأحداث" حتى ولو كانوا يعارضون العلم ذاته .... لا تقلق مستر ريتش ، فلست منهم ... لكن هناك تحدي امام ما تقول ، نواجهه الآن ، منذ مدة التقطنا إشارة من مجموعة شمسية محددة ، ويبدوا أنها هذه المرة صادرة عن عقل حي ، إذا صدق هذا فسينسف كل ما تقول .. (يبتسم العجوز وهو يرتشف كأسه) ... لا أريد ان أحبط عزيمتك .. لكنها بدون جدوى على الإطلاق ... (يبتسم بيلي أيضا) لا تزال تتمتع بحماسة الرهان ، مستر ريتش  أجل باسكال .. لأنه الرهان مثلما قال "باسكال" ..  عن أي رهان تكلم باسكال ..؟ ألم تقرأ كتابه الذي أعطيته لك ...؟ لا أعذرني .. لم أتمكن إلا من مطالعة الذي لنيتشه .. ولقد لفتني تحصره على باسكال ، ونعته له بالضياع ... فما الذي جناه ..؟ باسكال الصغير ، لا يعرف شيئا عن باسكال الكبير ... لا بل أعلم أنه اكتشف بنفسه وهو لايزال طفلا افتراضات إقليدس ، وانه صاحب فكرة الآلة الحاسبة .. وقد ترك لها مخططا مبتكرا .. ثم ماذا..؟ وانه الذي استطاع حل معادلة منحنى الدائرة الدوارة ، وصاحب الأبحاث في ثقل كتلة الهواء وتوازن السوائل .. وأشياء أخرى .. ثم ماذا ..؟ هذا جل ما كان يدرس لنا من مساهماته في العلم .. وهذا ليس بالقليل ...  إذا وللأسف روح باسكال لم تدرس لكم ، ولا حتى عقله العجيب ، لقد اكتفوا بجزء من آثاره .. مثلما يريدون منا أن نكتفي بجزء من الحقيقة دائما.. إن كنت تعرف بعض الأسرار عن باسكال وضياعه فأخبرني ليست أسرارا .. لكنها حقيقة حياته كلها .. إنها ما عاش من أجله.. والضياع الذي اتهمه به نيتشه، كان، لأن هذه الآثار التي أفادت العلم لم تكن سوى محطات على هامش عمره، الذي أفناه في هم آخر ... بالنسبة لنيتشه فقد أضاع عمره وطاقته الفكرية .. ليس وحده من تحامل على باسكال بالمناسبة ، فقد ثارت ثائرة كاتب أمريكي وهو يكتب سيرته وقال أنه حرم العلم وحرمنا من عبقريته الفذة عندما اعتزل الدنيا وانغمس في التصوف ... (ثم قام إلى خزانة الكتب ، وطفق يقلب كتبها بحثا عن كتاب ينشده، وهو يقول) .. إنهم يلومون باسكال لأنه اختار الحقيقة ورفض أوهام الحياة (ثم استل منها واحدا ، وعاد ليجلس قبالة بيلي ، وهو يقلب أوراقه) ... خذ مثلا ما قاله توكفيل عنه : " لو كان باسكال لا يفكر إلا في الربح الكبير ، أو حتى لو كان حافزه الوحيد حب الشهرة، لما كان باستطاعته في اعتقادي أن يركز كافة قواه العقلية كما فعل من أجل اكتشاف أفضل لأعمق أسرار الخالق . وإذ أراه ينتزع نفسه عن كل مشاغل الحياة ليكرس حياته كلها لهذه الأبحاث ، فيموت قبل الأوان وقد شاخ قبل أن يبلغ الأربعين من العمر، يغمرني الإحساس بالذهول ، وأدرك أنه ما من سبب عادي كان وراء مثل هذا الجهد الفريد". (ثم أقبل على بيلي يخاطبه) .. هل تعلم أن باسكال آوى إلى دير يختلي فيه إلى نفسه وهو في سن الحادية و الثلاثين ، وكان بحوزته حزام من المسامير في مقعده الذي يجلس عليه متى جاءه الناس للتحدث إليه في طلب المشورة ، فإن أحس بأنه يجد لذة في الحوار ضغط بمؤخرته على المقعد حتى يذكر نفسه بحقيقة عمله ودوره في الحياة .. وماهي حقيقة هذا الدور ..؟ باسكال يا صغيري ... لا استطيع أن أشرحها لك أحسن منه ، وقد تستطيع فهمه أحسن مني لأن عقلك الرياضي يشبه عقله كثيرا... تعتقد ذلك فعلا ..؟ نعم .. باسكال .. لا أريدك أن ترفض كل التراث الإنساني القديم .. وتتهم كل تلك الأجيال بالجهل لمجرد أننا قد علمنا أشياء كانوا يجهلونها .. لا أريدك أن تقول مثلما قال جاهل يدّعي العلم "لقد كانت الدنيا بأسرها في الماضي مصابة بالجنون" ... لأنني أخشى أن نكون نحن الذين أصبنا بالعمى ، وأن حقائق عظيمة في الأسفار القديمة، فاتتنا بسبب تكبرنا ... واستمرت جلستهما في نقاش متوقد ، لم يحظى بيلي بمثله من قبل ، ولمس من نفسه أول مرة ميولا نحو هكذا مواضيع ، حتى أحس بأنه قد أطال الغياب عن البيت ، فاستأذن العجوز في المغادرة ، فأبى ريتشارد إلا أن يغلق المحل ويقود كرسيه المتحرك بنفسه حتى اوصله إلى البيت ومن ثمة ودّعه ..

كتبت يوم ما من أيام عام 2011 م

الحياة لن تنتهي هنا

في شيكاغوا عاد بيلي مع أمه إلى البيت بعد فترة وجيزة في المستشفى وبعد أن شارفت امه على الاستسلام لشلله الدائم لا تزال على الاتصال بالأطباء تتبع بصيص الامل في علاج ابنها ... في البيت لا يكف أصدقاء العائلة عن التوافد لزيارة بيلي ... والدا بول أيضا ورغم مصابهما أقبلا لرؤيته وكم كان اللقاء مؤثرا مفعما بالمشاعر... وفي مساء أحد الأيام طرق الباب طارق ، ففتحت الأم وإذا بالعجوز ريتشارد صاحب المحل يحمل في يده باقة من الورد يستأذن في زيارة بيلي ، وكان التأثر باديا عليه .. تقدم وقبل بيلي كأب عطوف وابتسم :
فلتكن شجاعا يا باسكال .. الحياة لن تنتهي هنا ..
هذا لطف منك .. مستر ريتش .. سرتني فعلا زيارتك 
ثم اغرورقت عينا العجوز بالدموع فقام يريد الانصراف ، ورغم توسلات بيلي وإلحاح الام عليه بالبقاء إلا أنه أصر متعذرا بحاجيات المحل .. 
بعد أيام أصر بيلي على الخروج من المنزل بكرسيه المتحرك لوحده ، فلم تجد الأم بدا من منعه، فسمحت له شريطة أن لا يبتعد .. فخرج يدحرج عجلاته على رصيف الحي ، يحيي من يلقاه من الأصحاب والجيران ثم بدرت بذهنه خاطرة في زيارة محل العجوز ريتشارد ، فانحدر نحوه .. ولما دفع الباب ودخل، أقبل عليه العجوز مستبشرا وهو يقول :
باسكال ... كم أنا سعيد برؤيتك هنا 
وأخذ بكرسيه يجره إلى داخل مخدعه المتواضع ثم استأذن بيلي في أن يغلق باب المحل حتى لا يقطع أي زبون جلستهما ...
جئت لأشكرك على لفتتك الكريمة بزيارتي ذلك المساء
ذاك من الواجب ... حدثني باسكال عن كاليفورنيا والعمل هناك (وأخذ يحضر شيئا من القهوة في مطبخه الصغير)
لقد التحقت انا وبول بمعهد سيتي للاستماع وهو تابع لناسا ، في إطار برنامج ضخم لاكتشاف الفضاء ورصد الحياة في المجموعات الشمسية المشابهة لمجموعتنا ... في معهدنا يتركز بحثنا عن الحياة باستقبال الإشارات والرسائل التي ربما تكون قد أرسلت من قبل حضارات متطورة .. نبحث في تفاصيل الموجات والترددات، و البرنامج الذي طورته أنا وبول يغطي جانبا من هذه الموجات بالأخص منها ذات التردد المتراكب ..
إذا فأنتم تبحثون عن الحياة في السماء ..
أجل .. يمكنك قول هذا ... فالعلم أثبت أن الحياة ليست بدعة على الأرض ..
كيف ذلك ..؟
الحياة على الأرض .. ليست إلا بذرة جاءت من أقاصي الكون ، غرستها المذنبات هنا منذ دهر بعيد ..
لكنها مجرد فكرة أوحى بها فلم حرب النجوم ، وليست حتى نظرية ..
مستر ريتش .. بمعادلات إحتمالية ، لا يمكن أن يبقى لدينا شك في أن الكون يعج بالحياة ..
إسمع باسكال .. (وجلس يقدم كوبا من القهوة إليه) .. فكرة بذور الحياة هذه ، جاءت ردا على العجز المريع الذي منيت به فكرة تكوّن الحياة هنا على الأرض من اخلاط كيمياوية بالصدفة ... الحياة أعقد من أن تركب هكذا في المخبر ... لأجل ذلك ففكرة بذرة خيالية تحمل هذا التركيب الغامض تأتي من أقاصي الكون أصبحت بديلا .. لكنها ليست الحقيقة ..
وماهي الحقيقة ..؟؟
الحقيقة ..هي أن الحياة معجزة ... إنها معقدة للغاية ، إن خلية الكائن الحي أعقد بكثير من جميع منتجات التكنلوجيا التي صنعها الإنسان في وقتنا الحاضر و لا يمكن إنتاج خلية واحدة بتجميع مواد غير حية في أكبر المعامل المتطورة في العالم .. و بالاحتمالات التي تكلمت عنها .. خذ مثلا احتمالية تكوين بروتين متوسط له خمس مئة حمض أميني هي 1 من 10 950، إنها تعد مستحيلا على أرض الواقع ...
ماذا يعني كل هذا ..؟
هذا يعني أن ظهور الحياة هكذا مصادفة شيء مستحيل .. يجب علينا يا باسكال أن نعترف بقوة عظيمة خلقت الحياة لا أن نهرب نحو الأمام باحثين عن وهم آخر ...
إنك تتكلم عن الأشياء السماوية التي رفضها نيتشه ...
نعم باسكال ، رفضها نيتشه باسم العلم ، والعلم نفسه يرفض أفكاره اليوم، العلم اليوم يبحث عنها ليجد إجابات الحياة الخالدة ،... صدقني باسكال ، أنتم تبحثون عن الله في السماء .. (فانتبه باسكال إليه وحدق بعينيه)
كيف ذلك مستر ريتش ..؟
أنتم تبحثون عن الحياة في السماء ..؟ .. أجيبك وأقول لك بكل صدق .. نعم هناك حياة وحضارة أعظم مما نتصور جميعا ... إنها تختفي خلف ذلك الستار المظلم من المادة الكونية ...
أنتم تنتظرون إشارة تواصل من تلك الحضارات ..؟ .. أجيبك بان تلك الحضارات راسلتنا أكثر من مرة لكننا لم نجبها ، وكنا دائما نستهزئ بمن يحدثنا أن السماء قد كلمته 
.. باسكال .. العالم قد يقوم ولا يقعد إن علم أن مخلوقا من الفضاء نزل يوما إلى الأرض ، بينما وفي الحقيقة نحن مخلوقات فضائية غزونا هذه الأرض ، فخربناها ونوشك ان ندمرها ... نيتشه أقسم بالتشبث بالأرض ظنا منه أنها أصله الأول والأخير ... لكن علم الجينات اليوم يثبت بالدليل القاطع أن سلسلة مورثات كل البشر على الأرض مترابطة وتنتهي في أصلها إلى رجل واحد وامرأة واحدة ، إلى آدم وحواء ...
إذا فنحن مخلوقات فضائية .. فمن أي كوكب جئنا ..؟
من كوكب الجنة، باسكال ... ليس أمامك من سبيل إلا أن تؤمن بهذا... ، بأن بول قد غادرنا ليعود إلى ذلك الكوكب الجميل ..، وبأننا سوف نلحق به يوما ما 
هذا شيء جميل .. لكنك تحدثت عن رسائل وصلتنا من تلك الحضارة .. ماذا عنها ؟؟
نعم .. ومثلما قال نيتشه، فسر الوجود لن يكلم الإنسان إلا كإنسان ....(ثم طأطأ رأسه) ،أعلم .. أعلم - باسكال - أني ربما قد أثقلت عليك ، وانك ربما لن تستطيع هضم ما أقول جيدا ،لكنها آفتنا في هذا البلد ...، هكذا كان يصرخ أحد باحثي جامعة هارفارد "لا يمكن أبدا أن نسمح للتفسيرات الإلهية، أن تقفز إلى واجهة الأحداث" حتى ولو كانوا يعارضون العلم ذاته ....
لا تقلق مستر ريتش ، فلست منهم ... لكن هناك تحدي امام ما تقول ، نواجهه الآن ، منذ مدة التقطنا إشارة من مجموعة شمسية محددة ، ويبدوا أنها هذه المرة صادرة عن عقل حي ، إذا صدق هذا فسينسف كل ما تقول ..
(يبتسم العجوز وهو يرتشف كأسه) ... لا أريد ان أحبط عزيمتك .. لكنها بدون جدوى على الإطلاق ...
(يبتسم بيلي أيضا) لا تزال تتمتع بحماسة الرهان ، مستر ريتش 
أجل باسكال .. لأنه الرهان مثلما قال "باسكال" .. 
عن أي رهان تكلم باسكال ..؟
ألم تقرأ كتابه الذي أعطيته لك ...؟
لا أعذرني .. لم أتمكن إلا من مطالعة الذي لنيتشه .. ولقد لفتني تحصره على باسكال ، ونعته له بالضياع ... فما الذي جناه ..؟
باسكال الصغير ، لا يعرف شيئا عن باسكال الكبير ...
لا بل أعلم أنه اكتشف بنفسه وهو لايزال طفلا افتراضات إقليدس ، وانه صاحب فكرة الآلة الحاسبة .. وقد ترك لها مخططا مبتكرا ..
ثم ماذا..؟
وانه الذي استطاع حل معادلة منحنى الدائرة الدوارة ، وصاحب الأبحاث في ثقل كتلة الهواء وتوازن السوائل .. وأشياء أخرى ..
ثم ماذا ..؟
هذا جل ما كان يدرس لنا من مساهماته في العلم .. وهذا ليس بالقليل ... 
إذا وللأسف روح باسكال لم تدرس لكم ، ولا حتى عقله العجيب ، لقد اكتفوا بجزء من آثاره .. مثلما يريدون منا أن نكتفي بجزء من الحقيقة دائما..
إن كنت تعرف بعض الأسرار عن باسكال وضياعه فأخبرني
ليست أسرارا .. لكنها حقيقة حياته كلها .. إنها ما عاش من أجله.. والضياع الذي اتهمه به نيتشه، كان، لأن هذه الآثار التي أفادت العلم لم تكن سوى محطات على هامش عمره، الذي أفناه في هم آخر ... بالنسبة لنيتشه فقد أضاع عمره وطاقته الفكرية .. ليس وحده من تحامل على باسكال بالمناسبة ، فقد ثارت ثائرة كاتب أمريكي وهو يكتب سيرته وقال أنه حرم العلم وحرمنا من عبقريته الفذة عندما اعتزل الدنيا وانغمس في التصوف ... (ثم قام إلى خزانة الكتب ، وطفق يقلب كتبها بحثا عن كتاب ينشده، وهو يقول) .. إنهم يلومون باسكال لأنه اختار الحقيقة ورفض أوهام الحياة (ثم استل منها واحدا ، وعاد ليجلس قبالة بيلي ، وهو يقلب أوراقه) ... خذ مثلا ما قاله توكفيل عنه : " لو كان باسكال لا يفكر إلا في الربح الكبير ، أو حتى لو كان حافزه الوحيد حب الشهرة، لما كان باستطاعته في اعتقادي أن يركز كافة قواه العقلية كما فعل من أجل اكتشاف أفضل لأعمق أسرار الخالق . وإذ أراه ينتزع نفسه عن كل مشاغل الحياة ليكرس حياته كلها لهذه الأبحاث ، فيموت قبل الأوان وقد شاخ قبل أن يبلغ الأربعين من العمر، يغمرني الإحساس بالذهول ، وأدرك أنه ما من سبب عادي كان وراء مثل هذا الجهد الفريد". (ثم أقبل على بيلي يخاطبه) .. هل تعلم أن باسكال آوى إلى دير يختلي فيه إلى نفسه وهو في سن الحادية و الثلاثين ، وكان بحوزته حزام من المسامير في مقعده الذي يجلس عليه متى جاءه الناس للتحدث إليه في طلب المشورة ، فإن أحس بأنه يجد لذة في الحوار ضغط بمؤخرته على المقعد حتى يذكر نفسه بحقيقة عمله ودوره في الحياة ..
وماهي حقيقة هذا الدور ..؟
باسكال يا صغيري ... لا استطيع أن أشرحها لك أحسن منه ، وقد تستطيع فهمه أحسن مني لأن عقلك الرياضي يشبه عقله كثيرا...
تعتقد ذلك فعلا ..؟
نعم .. باسكال .. لا أريدك أن ترفض كل التراث الإنساني القديم .. وتتهم كل تلك الأجيال بالجهل لمجرد أننا قد علمنا أشياء كانوا يجهلونها .. لا أريدك أن تقول مثلما قال جاهل يدّعي العلم "لقد كانت الدنيا بأسرها في الماضي مصابة بالجنون" ... لأنني أخشى أن نكون نحن الذين أصبنا بالعمى ، وأن حقائق عظيمة في الأسفار القديمة، فاتتنا بسبب تكبرنا ...
واستمرت جلستهما في نقاش متوقد ، لم يحظى بيلي بمثله من قبل ، ولمس من نفسه أول مرة ميولا نحو هكذا مواضيع ، حتى أحس بأنه قد أطال الغياب عن البيت ، فاستأذن العجوز في المغادرة ، فأبى ريتشارد إلا أن يغلق المحل ويقود كرسيه المتحرك بنفسه حتى اوصله إلى البيت ومن ثمة ودّعه .. 

استمع إلى البودكاست الإذاعي للحلقة من هنا :


 #قصة #رواية # #باسكال   #كاليفورنيا   #الحياة   #تنتهي   #هنا
يتم التشغيل بواسطة Blogger.