مقدمة: المفهوم ومحاولة التعريف
مفهوم تاريخ العلوم له شهادة ميلاد في اعمال كتاب القرن الثامن عشر الفرنسيين، وبخاصه فونتونال وكندوروسيه، فانبعاثه في اعمال كوبرنيك وفيزال، ثم في اعمال جاليلي.
إن الاسلوب الفرنسي لتاريخ العلوم وللممارسة الابستمولوجية قد تأسس مع كونت بصوره عامه ثم تطور مع كلود برنار في القرن التاسع عشر ليعرف أوجه مع باشلار، وكافاياس وكويريه وكانغيلام في القرن العشرين.
ويرى الأستاذ الدكتور رشدي راشد أن تاريخ العلوم، كما يتبادر في كتابات المنتسبين إليهِ لا يمثل فناً مختصاً، بل ميدان نشاط. إذ ينقصه مبدأ التوحّد الذي قد يمنحه القدرة والوسائل الكفيلة بتمييزه، بل هو يتوسع توسعاً غير محدود وذلك بإضافات متواترة، إنه عنوان لمواضيع مختلفة ومتنافرة وليس فناً مختصاً ذا تعريف إجرائي.
ويرى البعض، وهم غالبية، أن تاريخ العلوم هو تاريخ للأفكار بالمعنى المعروف للعبارة أي تاريخ للعقليات. في حين يرى البعض الآخر، وهم أكثر صرامة وفطنة، أن تاريخ العلوم هو تاريخ المفاهيم العلمية، تاريخ تكوّنها وتطوّرها وتعديلها. ويرى آخرون، وهم مؤرخون في أصل تكوينهم، أنه لا يبالي بالمفاهيم وبطبيعتها الخاصة، بل أن تاريخ العلوم قد يكون تاريخ إنتاج ثقافي على غرار تاريخ الرسم أو تاريخ الأديان. ولنذكر أيضاً أولئك الذين يجعلون منه ضرباً من علم النفس الاجتماعي للعلماء، وكذلك الذين يجعلون منه علم اجتماع ميداني على النحو الذي تطوّر عليه علم الاجتماع إثر الحرب العالمية الثانية بالولايات المتحدة على وجه الخصوص، أي علم اجتماع للجماعات والمخابر والمؤسسات.
الابستمولوجيا الفرنسية: منهج التراكم
تاريخ العلوم يحتكم الى فلسفة أو نظريه ينقاد بها في هذا التاريخ، وهذه النظرية الابستمولوجيه هي ما يميز بصورة عامة الابستمولوجية والتاريخ الفرنسي أو كما يقول كانغيلام متحدثا عن ممارسة كونت للتاريخ (الأسلوب الفرنسي لتاريخ العلوم)، ميزة هذا الاسلوب هي الاحتكام الى نظرية، والبحث عن القوانين العامة التي تربط بين المفاهيم العلمية، وتؤسسها من أجل التقدم بها.
وهذا الاسلوب الفرنسي لإن بدأ مع كونت فإنه سيتطور في مشاريع تانوري ويجد اكتماله في أعمال كافاياس الخاصة بالرياضيات، وأعمال باشلار المتعلقة بالفيزياء الرياضية، واخيرا أعمال كانغيلام الذي يتخذ لنفسه مجالا آخر غير مجال أستاذيه باشلار وكافياس.
ان الاسلوب الفرنسي يعني اختبار تاريخ أي علم هو خلاصة قراءة مكتبة كامله مختصة، بداية من الألواح والبرديات الى الاقراص المغناطيسية مرورا ببدايات الطباعة.
هذه المكتبة وان كانت مكتبه مثاليه فإنها تمثل في الحقيقة مجموعة آثار ذلك العلم ورسومه، وتتمثل كلية الماضي في هذه الرسوم، وكأنها مجال متصل نستطيع ان ننقل عليه تبعا لأهمية اللحظة نقطة انطلاق التقدم وسيكون طرف التقدم الحالة الراهنة للعلم او للاهتمام.
وإن بدى هذا الأسلوب الفرنسي يميل إلى التراكمية والاتصال في منهجه، لكن تاريخ العلم لا يخلو من مراحل انفصال واضحة تقطع ذلك الاتساق المفترض، يقول الدكتور رشدي راشد ما مفاده: أنه يُعرض التمييز بين ما قبل العلمي والعلمي كما لو كان تمييزاً قطعياً يخضع له تاريخ العلوم بكليته. ويفهم هذا التقابل دائماً بمعنى تاريخي ومنطقي معاً. أي أن ما قبل العلمي يسبق دائماً منطقياً وتاريخياً ما هو علمي. وبمقتضى هذا التصور يزعم البعض أن القطيعة الحاسمة بينهما قد تمت جوهرياً في القرن السابع عشر.
مثال ذلك، إذا نعتت فيزياء أرسطو ونظرية العقد الاجتماعي بما قبل العلمية فبمعنى أن كلتيهما نظرية تخص تجربة معاشه - تجربة حركة النقلة أو تجربة الاقتراع في مجلس ما - ويعتقد أنها نسقية ومنسجمة. أما الداروينية الاجتماعية والفيزياء الاجتماعية، فينعتان بقبل العلمية، بمعنى أن كليهما يمثل علماً أُلحق بميدان مغاير لميدانه الأصلي، وتنعت مناظر إقليدس والإسهامات الحدّية (في الاقتصاد) بما قبل العلمية بمعنى المعرفة «الخالصة» الناتجة من تطبيق مباشر للرياضيات على نظريات تخص التجربة المعاشه، تجربة الإبصار المباشر وتجربة توزيع الخيرات. أخيراً تنعت بما قبل العلمية نماذج ترتاليا في "المدفعية" وكوندرسيه في العلوم الاجتماعية أو فون نیومان (Von Newmnan) في الاقتصاد باعتبارها تطبيقات غير مباشرة للرياضيات على نظرية عن التجربة المعاشه بحيث يكون هذا التطبيق معتمداً على قياس مع اختصاص ثالث.
هنا لا يمكن تجاهل التعديلات المنهجية والمراجعات التي طرأت على الأسلوب الفرنسي، هذه المراجعة وهذا التشطيب هو ما يعبر عنه باشلار بالقطيعة الايبيستمولوجية وما يعبر عنه كافاياس بالانكسار وكويرييه بالتحول الفجائي او النقلة النوعية، ويقدم كانغيلام طريقته في كتابه تاريخ العلوم وهي التي تسمى بالاستردادية والتراجعية، حيث يقول:
توجد طريقه اخرى في كتابه تاريخ العلوم غير تلك التي تسعى الى اقامة التواصل الخفي لتقدم الفكر، انها تلك التي تسعى الى جعل وضعية ما، قابلة للإدراك ومؤثرة، وكذا الأمر بالنسبة الى سلطة القطيعة المميزة للابتكار ما.
يعني بذلك ابرازه نقطة انطلاق التقدم او التحول في المفهوم والمنهج او التركيب التجريبي.
منهج القطيعة:
بحسب الدكتور رشدي راشد فالمعارف ما قبل العلمية هي إذن متعدّدة، وهي أيضا متفاوتة القيمة. فمع أنها تنطلق كلها من نظرية ما في التجربة المعاشه، ومع كونها تخضع إلى المعايير نفسها التي سبق عرضها، فإن أهدافها مختلفة وكذلك قدراتها التفسيرية ودرجة رقابتها لتركيبها اللغوي ولتقنيتها. لذلك، لا يمكن أن تكون لهذه المعارف نفس العلاقات مع العلم المقبل.
صحيح أن العلم المقبل إنما يتكون في تضاد وبقطيعة معها وهذا ما قيل مراراً، لكن القطيعة لا يكون لها في كل الحالات نفس المدى. فمع أن القطيعة مع نظرية التجربة ومع معاييرها تحدث دائماً في العمق، فإنها تسلك سبلاً لا تفتأ عن التباعد.
هكذا كان شأن علم المناظر مع ابن الهيثم، فإن قطيعته مع نظريات سابقيه تتمثل في فصل شروط انتشار الضوء عن شروط الرؤية، بحيث لا يؤخذ بعين الاعتبار في خصوص الأولى إلا أشياء مادية –«أصغر أجزاء الضوء» - لا تحمل من الصفات إلا التي تخضع إلى رقابة هندسية وتجريبية تاركة جانباً الكيفيات الحسية باستثناء تلك المتعلقة بالطاقة. ومع عمق هذه القطيعة - إذ مكنت مع إدراج ضرب جديد من البرهان في علم المناظر وفي العلم الطبيعي - فإنها لم تحصل بنفس الحال مع مناظر أقليدس ولا مع نظرية الإبصار الأرسطية. كذلك كان الشأن في الميكانيكا، فجاليليو كان أوّل من استطاع التمييز داخل نظريات الحركة بين ما هو عائد إلى علم الحركة (cinématique) وما يعود إلى الديناميكا، بحيث لا يؤخذ بعين الاعتبار إلا العلاقات بين أوضاع الأشياء المادية عبر الزمان. فلم تعد تكتسي إلا صفات يمكن مراقبتها هندسياً وتجريبياً إذ أقصيت كل الصفات الحسية ما عدا صفة مقاومة الحركة.
ويرى الدكتور رشدي راشد كذلك أن القطيعة تتم مع نظريات التجربة المعاشة - ومع معايير تطويرها في آن واحد - بفضل تصوّر لموضوع يحتوي على قانون للإجراء العملي وللحكم. فلا تكون المعرفة الناتجة (من القطيعة) متضمّنة لقوة تراكمية فحسب، بل إنها لا تحقق فعليا التراكم إلا بفضل تعديل مستمر لكيفية فهمها، وتبرز الصيغ الجديدة أثناء عمليات التعديل هذا، فإذا فكرنا بمفاهيم جاهزة سلفاً، فإنه يمكن القول إن الانفصالات والاتصالات مرسومة بعضها في بعض.
وقد تسمى أحياناً هذه القطيعة «ثورات» إشارة إلى الانتقال من نظرية إلى أخرى، من ميكانيك جاليليو ونيوتن إلى النسبية الخاصة، ومن هذه مع الكهردينامية والدينامية الحرارية المتصلة إلى نظرية الكوانطا (théorie des quanta ). ما يقصد هنا هو ظهور صيغ جديدة للعمل نفسه تعيد في كل مرة تحديد موضوعه، لكن بدون استبداله بموضوع آخر مغاير كما كان حال المعرفة ما قبل العلمية.
ملاحظة: تجاهل وتباين
هنالك عدم انفتاح وتجاهل يلاحظ عند الكتاب الأنجلوسكسون من ناحية، وعند كتاب القارة الأوروبية وبخاصه فرنسا من ناحية ثانية، حيث يغلب عليهم تجاهل بعضهم البعض، وهذا التجاهل المتبادل هو ظاهرة لفتت اهتمام الجيل الجديد من المطلعين بشؤون الفكر الفلسفي على ضفتي المحيط الاطلسي فحاولوا رصدها وفهم أبعادها،
كما يلاحظ عدم اهتمام الكتاب في الجزر البريطانية وبعض البلدان الأمريكية بالأسلوب الفرنسي في الأبستمولوجيا سواء في وجهه التحليلي او الفينومينولوجي، كما لا يذكر في تلك البلدان القائلون بالقطيعة والقائلون بالاتصال في مسيره التقدم العلمي.
مراجع:
1- مقال: تاريخ العلوم فيما بين فلسفة العلوم والتاريخ - أ.د. رشدي راشد – موقع: منظمة المجتمع العلمي العربي
2- كتاب: دراسات في تاريخ العلوم وفلسفتها – جورج كانغيلام – ترجمة – د. محمد بن ساسي
#فلسفة #تاريخ #العلوم #بين #التراكم #والقطيعة
#The #philosophy #of #the #history #of #science #between #accumulation #and #estrangement