باسكال في كاليفورنيا -8- طفولة محرومة

0
طفولة محرومة   وامتطى في الغد الطائرة إلى دنفر بعدما ودع امه في المطار .. وفي دنفر غير مساره واستقل طائرة إلى فانكوفر ، وهناك في المطار أقبل عليه رجل مسن ذو لحية بيضاء من الشيب وعلى جبينه ارتسمت آثار السنين ... فلما اقترب منه ناداه متسائلا : باسكال ..؟  نعم باسكال ... أيها الأب توماس ..  فابتسم الأب توماس ورحب به وحمل عنه حقيبته واخذ يقود كرسيه خارجا من المطار ثم إلى سيارته .. ومن ثمة أقلع باتجاه ضواحي المدينة إلى أن توقف بجانب بناية متواضعة .. فلما ولجا إليها إذا هي مدرسة متعددة بها عدد من أطفال الهنود .. وإذا بقسم آخر فيها يضم صبيانا وبنات يبدو عليهم التخلف الذهني .. ثم انتهوا إلى مكتب صغير في طرف البناية هو مكتب الأب توماس ، جلسا معا وقدم الأب شيئا من الأكل لبيلي ، وعرّفه أيضا ببعض الاصدقاء العاملين معه في هذه الجمعية الخيرية ثم اختليا معا في المكتب :  كم عندك من الوقت ،بني، لتقضيه هنا معنا ..؟  أسبوعا أو أقل ...  أعذرني على سؤالي .. لكنه من أجل ترتيب مواعيدي .. أريد حقا ان أستثمر وقتك الثمين الذي اقتطعته من أجل زيارتي ...  لقد اخبرني ريتشارد بخصوصية حالتك ... وبالعمل الخاص الذي تقوم به في كاليفورنيا .. لذلك لا اريد ان يكون مجيؤك إلى هنا عبثا .. وكذلك لا اريد أن أأخرك عن الالتحاق بعملك ..  كل الشكر والتقدير لك أبتي .. بل أنا الذي يعتذر منك ، لأنني قد اكون سببت لك شيئا من الإزعاج وصرفتك عن بعض أعمالك الجليلة ...  واستمر حديثهما حميميا إلى أن استأذن الأب بيلي في قضاء بعض الحوائج خارجا .. وبقي بيلي يتجول بهدوء يتفقد أقسام الجمعية ويتأمل هؤلاء الشباب والشابات المكبين على رعاية هذه الطفولة المحرومة تطوعا من غير أجر .. ثم تذكر كلام نيتشه عن أحقية الانسان القوي بالبقاء وعن حتمية الفناء لكل من به عاهة أو نقص يمنعه من الحياة السوية ، بل وتعدى ذلك يعطي للأقوياء حق إبادة الضعفاء .. لأنهم بذلك حسب زعمه يطهرون الأرض وينقون جنس البشرية من كل عيب ... وطفق بيلي يقول في نفسه إن عدم الإيمان بإله خالق لهذا الكون ، يدفع بالإنسان إلى التخبط في هذه الحياة على غير هدى .. بل يصير الإنسان وحشا .. وحشا بريا بلا قيد من الأخلاق ولا رادع من القيم ... بلا هدف واضح في الحياة ... حتى ليفقد معنى الخير ومعنى الشر .. ولا يحس بفرق بين الفضيلة والرذيلة ...  ثم عاد الأب توماس و أخذ بيلي معه في السيارة وبدأ يقودها في اتجاه طريق يؤدي إلى خارج المدينة :  لقد تحررتُ من جميع التزاماتي هذا الاسبوع .. ونحن الآن في طريقنا إلى دير الشهداء .. إنه دير متواضع اعتكفَ فيه جملة من القدسين والبررة منذ قرون .. لكنه اليوم مهجور تماما .. تعودتُ ان أختلي فيه كلما لاحت لي الفرصة ... واليوم بفضلك أعود إليه بعد غياب طويل ...  لن نجد فيه أحدا إذن ...  لن يكون فيه غيرنا ...  وبعد ساعات سيرا وصلا إلى الدير في وسط غابة .. تكاد تخفيه الأشجار العالية ، وقد بني بالحجارة ... كان بناء قديما وكأنما ينضح منه عبق التاريخ ...  ثم دخلا إلى الدير وإذا بقاعة للصلاة فيه ،تنبه بيلي إلى خلوها من أي أيقونة أو صليب .. حتى جدارها الأمامي الذي تعودت الكنائس على نصب صليب كبير فيه ، ليس فيه إلا آثار للهب الشموع ... وبعد أن وضع متاعهما داخل غرفة صغيرة ، عاد الأب توماس إلى قاعة الصلاة وجلس على ركبتيه قبالة الجدار العتيق ، وطأطأ رأسه يضم كلتا يديه إلى صدره في خشوع وسكون وصمت ... ثم انطلق لسانه بالدعاء:  تبارك اسم الله القدوس الذي من سره ورحمته أراد فخلق خلائقه ليمجدوه ،  تبارك اسم الله القدوس الذي خلق نور جميع القديسين والأنبياء قبل كل الأشياء ليرسله لخلاص العالم كما تكلم على لسان عبده داوود قائلا : (قبل كوكب الصبح ، في ضياء القديسين خلقتك) ،  تبارك اسم الله القدوس الذي خلق الملائكة ليخدموه ، وتبارك الله الذي لعن وخذل الشيطان و أتباعه الذين لم يسجدوا لمن أحب الله أن يسجد الجميع له ،  تبارك اسم الله القدوس الذي خلق الإنسان من طين الأرض و جعله قيما على أعماله،  تبارك اسم الله القدوس الذي طرد الإنسان من الفردوس لأنه عصا أوامره الطاهرة ، تبارك اسم الله القدوس الذي برحمته نظر بإشفاق إلى دموع آدم وحواء ،  تبارك اسم الله القدوس الذي لعن بعدله قايين قاتل أخيه وأرسل الطوفان على الأرض وأحرق ثلاث مدن شريرة ، وضرب مصر وأغرق فرعون في البحر الأحمر وبدد شمل أعداء شعبه ، وأدب الكفرة ولعن غير التائبين ،  تبارك اسم الله القدوس الذي برحمته أشفق على خلائقه فأرسل إليهم أنبياءه ليسيروا في الحق والبر أمامه ،  الذي أنقذ عبيده من كل شر وأعطاهم الأرض كما وعد أبانا إبراهيم وابنه إلى الأبد ، ثم أعطانا ناموسه الطاهر على يد عبه موسى لكي لا يغشنا الشيطان ... (فخنقت العبرات كلماته ثم أجهش بالبكاء)  ولبث كذلك مليا .. منكسر الخاطر .. ذليلا في محرابه ، حتى ظن بيلي أنه قد نسيه ..  ثم قام الأب وعاد يسير بسكينة إلى ان جلس قبالة بيلي ، ثم تكلم :  بني ... ما زلت شابا يافعا ... ومازال امامك مستقبل مشرق ... فلم تشغل نفسك ووقتك الثمين، بخرافات تستهوي المسنين ..؟  (فابتسم بيلي وقال) .. يا أبتي ... لقد اعتزل باسكال في دير ولم يكن مسنا ، وكان امامه مستقبل أكثر إشراقا من مستقبلي .  بني ... لما .. لم تقنع بما قنع به أكثر العلماء والباحثين في هذا العالم ... بأن حقيقة الحياة مادية ... وأن هذه اللاهوتيات مجرد أوهام ..؟  .. أبتي ... لو كانت أسرار الحياة في متناول الجميع ، لما أصبح لها معنى .  (فابتسم عندها الأب ، ثم قام وهو يقول لبيلي) .. إن أردت طعاما ، فستجده في المطبخ .  ثم دخل غرفة ، وبعد برهة خرج وهو يرتدي لباس الرهبان، ويحمل كتابا عتيقا كأنه مخطوط ، ولما انتهى إلى زاوية قاعة الصلاة جلس يتصفحه، ثم أخذ يقرأه ويتلوا آياته بلغة لم يفهمها بيلي .. واستمر الحال على ذلك ... الأب مستغرق في تلاوته وبيلي يراقبه من بعيد ، حتى أحس بالضجر ، راودته نفسه على التفسح في أرجاء الدير لكنه قاومها ولازم مكانه حتى أظلم الليل .. ولما أُعتم المكان ، قام الأب من مكانه وأخذ يوقد الشمع في أرجاء قاعة الصلاة ومن ثمة في أرجاء الدير كله ، ولما عاد كان يحمل في يده بعض الطعام ناوله بيلي وعاد خاويا إلى مكانه في زاوية القاعة ...

كتبت يوم ما من أيام عام 2011 م

طفولة محرومة 

وامتطى في الغد الطائرة إلى دنفر بعدما ودع امه في المطار .. وفي دنفر غير مساره واستقل طائرة إلى فانكوفر ، وهناك في المطار أقبل عليه رجل مسن ذو لحية بيضاء من الشيب وعلى جبينه ارتسمت آثار السنين ... فلما اقترب منه ناداه متسائلا : باسكال ..؟ 
نعم باسكال ... أيها الأب توماس .. 
فابتسم الأب توماس ورحب به وحمل عنه حقيبته واخذ يقود كرسيه خارجا من المطار ثم إلى سيارته .. ومن ثمة أقلع باتجاه ضواحي المدينة إلى أن توقف بجانب بناية متواضعة .. فلما ولجا إليها إذا هي مدرسة متعددة بها عدد من أطفال الهنود .. وإذا بقسم آخر فيها يضم صبيانا وبنات يبدو عليهم التخلف الذهني .. ثم انتهوا إلى مكتب صغير في طرف البناية هو مكتب الأب توماس ، جلسا معا وقدم الأب شيئا من الأكل لبيلي ، وعرّفه أيضا ببعض الاصدقاء العاملين معه في هذه الجمعية الخيرية ثم اختليا معا في المكتب : 
كم عندك من الوقت ،بني، لتقضيه هنا معنا ..؟ 
أسبوعا أو أقل ... 
أعذرني على سؤالي .. لكنه من أجل ترتيب مواعيدي .. أريد حقا ان أستثمر وقتك الثمين الذي اقتطعته من أجل زيارتي ... 
لقد اخبرني ريتشارد بخصوصية حالتك ... وبالعمل الخاص الذي تقوم به في كاليفورنيا .. لذلك لا اريد ان يكون مجيؤك إلى هنا عبثا .. وكذلك لا اريد أن أأخرك عن الالتحاق بعملك .. 
كل الشكر والتقدير لك أبتي .. بل أنا الذي يعتذر منك ، لأنني قد اكون سببت لك شيئا من الإزعاج وصرفتك عن بعض أعمالك الجليلة ... 
واستمر حديثهما حميميا إلى أن استأذن الأب بيلي في قضاء بعض الحوائج خارجا .. وبقي بيلي يتجول بهدوء يتفقد أقسام الجمعية ويتأمل هؤلاء الشباب والشابات المكبين على رعاية هذه الطفولة المحرومة تطوعا من غير أجر .. ثم تذكر كلام نيتشه عن أحقية الانسان القوي بالبقاء وعن حتمية الفناء لكل من به عاهة أو نقص يمنعه من الحياة السوية ، بل وتعدى ذلك يعطي للأقوياء حق إبادة الضعفاء .. لأنهم بذلك حسب زعمه يطهرون الأرض وينقون جنس البشرية من كل عيب ... وطفق بيلي يقول في نفسه إن عدم الإيمان بإله خالق لهذا الكون ، يدفع بالإنسان إلى التخبط في هذه الحياة على غير هدى .. بل يصير الإنسان وحشا .. وحشا بريا بلا قيد من الأخلاق ولا رادع من القيم ... بلا هدف واضح في الحياة ... حتى ليفقد معنى الخير ومعنى الشر .. ولا يحس بفرق بين الفضيلة والرذيلة ... 
ثم عاد الأب توماس و أخذ بيلي معه في السيارة وبدأ يقودها في اتجاه طريق يؤدي إلى خارج المدينة : 
لقد تحررتُ من جميع التزاماتي هذا الاسبوع .. ونحن الآن في طريقنا إلى دير الشهداء .. إنه دير متواضع اعتكفَ فيه جملة من القدسين والبررة منذ قرون .. لكنه اليوم مهجور تماما .. تعودتُ ان أختلي فيه كلما لاحت لي الفرصة ... واليوم بفضلك أعود إليه بعد غياب طويل ... 
لن نجد فيه أحدا إذن ... 
لن يكون فيه غيرنا ... 
وبعد ساعات سيرا وصلا إلى الدير في وسط غابة .. تكاد تخفيه الأشجار العالية ، وقد بني بالحجارة ... كان بناء قديما وكأنما ينضح منه عبق التاريخ ... 
ثم دخلا إلى الدير وإذا بقاعة للصلاة فيه ،تنبه بيلي إلى خلوها من أي أيقونة أو صليب .. حتى جدارها الأمامي الذي تعودت الكنائس على نصب صليب كبير فيه ، ليس فيه إلا آثار للهب الشموع ... وبعد أن وضع متاعهما داخل غرفة صغيرة ، عاد الأب توماس إلى قاعة الصلاة وجلس على ركبتيه قبالة الجدار العتيق ، وطأطأ رأسه يضم كلتا يديه إلى صدره في خشوع وسكون وصمت ... ثم انطلق لسانه بالدعاء: 
تبارك اسم الله القدوس الذي من سره ورحمته أراد فخلق خلائقه ليمجدوه ، 
تبارك اسم الله القدوس الذي خلق نور جميع القديسين والأنبياء قبل كل الأشياء ليرسله لخلاص العالم كما تكلم على لسان عبده داوود قائلا : (قبل كوكب الصبح ، في ضياء القديسين خلقتك) ، 
تبارك اسم الله القدوس الذي خلق الملائكة ليخدموه ، وتبارك الله الذي لعن وخذل الشيطان و أتباعه الذين لم يسجدوا لمن أحب الله أن يسجد الجميع له ، 
تبارك اسم الله القدوس الذي خلق الإنسان من طين الأرض و جعله قيما على أعماله، 
تبارك اسم الله القدوس الذي طرد الإنسان من الفردوس لأنه عصا أوامره الطاهرة ، تبارك اسم الله القدوس الذي برحمته نظر بإشفاق إلى دموع آدم وحواء ، 
تبارك اسم الله القدوس الذي لعن بعدله قايين قاتل أخيه وأرسل الطوفان على الأرض وأحرق ثلاث مدن شريرة ، وضرب مصر وأغرق فرعون في البحر الأحمر وبدد شمل أعداء شعبه ، وأدب الكفرة ولعن غير التائبين ، 
تبارك اسم الله القدوس الذي برحمته أشفق على خلائقه فأرسل إليهم أنبياءه ليسيروا في الحق والبر أمامه ، 
الذي أنقذ عبيده من كل شر وأعطاهم الأرض كما وعد أبانا إبراهيم وابنه إلى الأبد ، ثم أعطانا ناموسه الطاهر على يد عبه موسى لكي لا يغشنا الشيطان ... (فخنقت العبرات كلماته ثم أجهش بالبكاء) 
ولبث كذلك مليا .. منكسر الخاطر .. ذليلا في محرابه ، حتى ظن بيلي أنه قد نسيه .. 
ثم قام الأب وعاد يسير بسكينة إلى ان جلس قبالة بيلي ، ثم تكلم : 
بني ... ما زلت شابا يافعا ... ومازال امامك مستقبل مشرق ... فلم تشغل نفسك ووقتك الثمين، بخرافات تستهوي المسنين ..؟ 
(فابتسم بيلي وقال) .. يا أبتي ... لقد اعتزل باسكال في دير ولم يكن مسنا ، وكان امامه مستقبل أكثر إشراقا من مستقبلي . 
بني ... لما .. لم تقنع بما قنع به أكثر العلماء والباحثين في هذا العالم ... بأن حقيقة الحياة مادية ... وأن هذه اللاهوتيات مجرد أوهام ..؟ 
.. أبتي ... لو كانت أسرار الحياة في متناول الجميع ، لما أصبح لها معنى . 
(فابتسم عندها الأب ، ثم قام وهو يقول لبيلي) .. إن أردت طعاما ، فستجده في المطبخ . 
ثم دخل غرفة ، وبعد برهة خرج وهو يرتدي لباس الرهبان، ويحمل كتابا عتيقا كأنه مخطوط ، ولما انتهى إلى زاوية قاعة الصلاة جلس يتصفحه، ثم أخذ يقرأه ويتلوا آياته بلغة لم يفهمها بيلي .. واستمر الحال على ذلك ... الأب مستغرق في تلاوته وبيلي يراقبه من بعيد ، حتى أحس بالضجر ، راودته نفسه على التفسح في أرجاء الدير لكنه قاومها ولازم مكانه حتى أظلم الليل .. ولما أُعتم المكان ، قام الأب من مكانه وأخذ يوقد الشمع في أرجاء قاعة الصلاة ومن ثمة في أرجاء الدير كله ، ولما عاد كان يحمل في يده بعض الطعام ناوله بيلي وعاد خاويا إلى مكانه في زاوية القاعة ...  

استمع إلى البودكاست الإذاعي للحلقة من هنا :


# باسكال #في #كاليفورنيا #-8- #طفولة #محرومة #قصة #رواية # 
يتم التشغيل بواسطة Blogger.