مقدمة:
ينسب عادة علم المنطق إلى أرسطو و تُأرّخ نشأته نحو القرن الرابع قبل الميلاد في منطقة اليونان كثمرة من ثمار الفترة الزاهية للفلسفة اليونانية، لكن أصول المنطق عموما والأرسطي بالخصوص تعود قبل ذلك بزمن إلى حضارات شرقية لم تكن أقل شأنا، بل وحازت على السبق في ابتكار هذا النسق من التفكير، نقف في هذا البحث المقتضب على المدارس التي ساهمت في بناء علم المنطق في كل من الهند والصين قبل ظهوره في اليونان وكيف كان لإسهاماتها أثر واضح على المنطق اليوناني.
1 - المنطق الهندي:
لقد اعترف ألكسندر ماكوفلسكي في كتابه تاريخ المنطق (بوجود منطق هندي لا يقل أصالة وعقلانية عن المنطق الأرسطي، كما لا يقل عنه قابلية للتعريف بأنه علم الفكر وعلم قوانين العقل وعلم نظرية المعرفة)، وقد ارتبط المنطق عند الهنود بالخطابة وفن الكلام فقد أسهمت المجادلات الفلسفية التي كان يدافع ممثلو التيارات المختلفة من خلالها عن مفاهيمهم ويقدمون حججا ضد آراء خصومهم، إسهاما كبيرا في ميلاد المنطق داخل الهند، ولهذا كان المنطق في البداية مرتبطا بنظرية الفن الخطابي وكانت النظريات المنطقية متشابكة مع الخطابة، وقد ورد في هذه الرسائل على سبيل المثال أنه ينبغي أن لا يأخذ الإنسان الكلمة وهو في حالة من الإجهاد أو الكآبة، الغضب أو أي انفعال عنيف لأن هذه الحالات التي تمر بها النفس تؤثر في صحة الكلام.
ومن بين المدارس الكثيرة التي تطورت وازدهرت في الهند وكان لها اهتمام بالمنطق، مدرسة النيايا ومدرسة الفايشيشيكا ومدرسة السارفاكا والجينا.
مدرسة النيايا: نظرية القياس
تنسب النيايا إلى شخص يدعى غوتاما وتعني النيايا الدليل أو الطريق أو الأسلوب، الذي يستخدمه العقل للوصول إلى النتيجة الصحيحة أو الحقيقة الكلية، وأهم ما تميزت به هذه المدرسة المنطق الذي وضعت قواعده العلمية وأوضحت أقيسته وأشكاله وأبانت الصحيح منها والفاسد، وأعلنت أن الصحة والفساد إنما يتعاقبان على القياس بتعاقب بعض الأعراض عليه.
وإذا كان منطق أرسطو يبنى على أساس الانتقال من مقدمتين ثم النتيجة، فإن النيايا تتدرج عبر خمسة مراحل أو أجزاء للقياس هي:
1- ذكر الأطروحة الازم اثباتها،
2- ذكر سبب الأطروحة
3- إعطاء مثال يمثل قاعدة يمكن الاستناد إليها للمساعدة في إثبات الأطروحة
4- ذكر علاقة القاعدة بالأطروحة على النحو الذي أثبتت به
والمثال الذي قدمه غوتاما في النيايا سوترا هو:
(1- توجد نار على التل
(2- لأنه يوجد دخان هناك
(3- حيثما يوجد دخان توجد نار كما في المطبخ مثلا
(4- يوجد دخان مرتبط بالنار على التل
(5- لذلك توجد نار على التل
كذلك من المواضيع المنطقية التي اهتمت بها مدرسة النيايا، الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها الفكر، وقد قام فلاسفة النيايا من أجل المساعدة في تجنب أخطاء معينة شائعة بإعداد قائمة من المغالطات أو الأخطاء الشائعة التي ينبغي تجنبها.
ملاحظة:
يمكن القول أن القياس الأرسطي كان معروفا عند الشعوب القديمة، حتى أنه يمكن اعتبار القياس الهندي الذي يتأسس على خمسة مقدمات هو في الحقيقة الأصل الذي قام عليه القياس الأرسطي فيما بعد، كما لا ننسى في هذا الصدد الاهتمام الكبير الذي أولاه الهنود بالدراسات اللغوية والجدل وهي المباحث الهامة التي قام عليها المنطق.
المدرسة السفسطائية الهندية:
الواقع أنَّ هذا اللون من التفكير لم يعرفه اليونانيون فقط بل عرف كذلك عند الشرقيين القدامى خاصة عند الهنود والصينيين الذين اهتموا أيضا بالخطابة والنقاش واللغة والجدل، وبخصوص السفسطائيون الهنود فما يميّزهم أنهم أنكروا سلطان الفيدا تمام الإنكار وزعموا أنهم وحدهم ذوو المعرفة الصحيحة وساعدهم على ذلك الادعاء أنَّ مواهبهم الخطابية كانت قويّة إلى حدّ أنهم كانوا يستطيعون البرهنة على أحقية الشيء الواحد وبطلانه، وخيريته و وشريته، وحسنوه وقبحوه في آن واحد، وهذا من بين النقاط التي يلتقي فيها السفسطائيون الهنود مع السفسطائيون اليونان، كما أنَّ السفسطائيون الهنود كانوا يتخيّرون أياما محددة من السنة وبخاصة أثناء مواسم الاحتفالات الدينية وتقديم الطقوس والقرابين ليقدموا تعاليمهم في كل مكان دون مقابل، يعلمون الناس المنطق على أنّه الفن الذي نستطيع به أن نبرهن على أي شيء.
اللغة والجدل عند الهنود:
إنَّ الاهتمام الذي أولاه الهنود للخطابة والجدل والنقاش هو من صميم الاهتمام باللغة، لهذا فالبحث في المسائل اللغوية قديم جدا حيث نجد أنَّ الهنود قد سبقوا بزمن طويل الكثير من الشعوب والحضارات في الاهتمام بالدارسات اللغوية التي تعتبر من ألم الاسهامات التي قدميا الهنود في هذا المجال.
خاتمة:
ممَّا سبق يمكن القول أنَّ الهند قد ازدهرت فيها الفلسفة والمنطق ومختلف العلوم وأنهم أثاروا إشكاليات عديدة واهتموا بالبحث في نظرية المعرفة، كما نجد أنَّ اليونان يدينون بالكثير من نظرياتهم للهنود، و بذلك تبقى الهند قاعدة وأساسا لبناء الفكر البشري الراقي.
كما أنَّ المنطق كان معروفا لذى الكثير من المدارس الهندية حيث ينظر البعض إلى المنطق الهندي على أنّه الأساس الذي قام عليه منطق أرسطو، وكما يلاحظ ماكوفمسكي فإنَّ تاريخ المنطق يخصُّ الهنود القدامى بمثل ما يخصُّ به الإغريق القدامى من سبق إلى صياغة النظريات المنطقية، وإن كان منطق أرسطو قد انتشر لاحقا في أوروبا الغربية والشرقية والشرق الأوسط، فإنَّ المنطق الهندي قد انتشر في الصين واليابان والتبت ومنغوليا والفلبين و إندونيسيا، وهذا يدل على أصالة المنطق الهندي.
2 - المنطق الصيني:
ترجع البدايات الأولى للفلسفة الصينية إلى فكر كل من لاوتسو 604 ق م، و كونفوشيوس 551 ق م، ومن خلال دراسة فلسفة كونفوشيوس يتضح أنه قد عرف المنطق وكانت له إسهامات كبيرة في هذا المجال، فالقارئ لا يكاد يتصفح اي كتاب من كتب كونفوشيوس حتى يجد المنطق قد فاز فيها بأجل المواضيع واسمائها بل انه لا يقرر قاعده ولا يدعي نظريه في جميع كتبه الا مدعمه بحجج مصنوعه على اقيسه ذلك العلم المتفق عليه
وإذا كان ارسطو يعترف بفضل سقراط في وضعه للتعريفات من خلال بحثه في ماهيات الاشياء فان البحث في فلسفه كونفوشيوس تبين ان حكماء الصين قد سبقوا حكيم الاغريق الى هذه الفكرة وان لهم فيها نصوصا قيمه جديرة بالإعجاب، كما اهتم بمسألة المطابقة بين الالفاظ والمعاني او بين الاسماء ومسمياتها
لقد ايقن كونفوشيوس العلاقة الوطيدة التي تجمع بين الالفاظ والمعاني او بين الاسماء والمسميات والدور الذي تؤديه في المجتمع والنظام وتأدية الواجب فاذا لم تتفق الاسماء مع مسمياتها بالضبط وقع الخلط في اللغة واذا وقع الخلط في اللغة لا ينفذ شيء من اوامر النظام العام
لهذا يتحدث كونفوشيوس عن تصويب الاسماء جنغ-منغ وهو الاستعمال الصحيح للكلمات وهذا يعني ضرورة مطابقه الكلمة للواقع
نظريه القياس عند الصينيين:
بالنسبة للقياس فقد استخدم كونفوشيوس القياس الذي يقوم على الانتقال من مقدمات مسلم بها الى نتيجة لازمه عنها بالضرورة. لكن لم يعترف كونفوشيوس الا بالأقيسة المسايرة للأشكال الصحيحة المضبوطة التي يستحيل الطعن على منتجاتها بوجه من الوجوه. ونشير هنا الى ان اشكال القياس في المنطق الصيني تختلف عن اشكالها عند الاغريق حيث اعتبر الصينيون ان ذكرى المقدمة الكبرى في القياس ليس له فائدة ولذلك يجب تجاوزه فبدلا من القياس: كل انسان فان سقراط انسان سقراط فان نجد مع القياس الصيني: سقراط انسان اذا هو فان او سقراط فان لأنه انسان، كما ان كونفوشيوس كان يلجا كثيرا الى القياس المتتابع الذي يقوم على عده اقيسه متتابعة يقوم كل منها على اتخاذ النتيجة في القياس السابق كمقدمه ينطلق منها في القياس الجديد
يمكن القول ان تعاليم كونفوشيوس وفلسفته نالت شهره ونجاحا كبيرا حيث استطاعت فلسفته ان يكون لها امتداد استمر عبر العصور وصولا الى يومنا هذا فكان تأثيره على الفكر الصيني ومختلف المجالات الاخرى كالتربية والتعليم والسياسة والاخلاق كما ان يمكن اعتباره بمثابه الفيلسوف الذي مهد للتفكير المنطقي من خلال بحثه في التعريفات والاسماء والالفاظ ومعاني الالفاظ والعلاقة بينهما وهذا في الحقيقة من المواضيع الهامه التي يهتم بها المنطق كما عرف المنطق لدى مي-تي زعيم المدرسة النفعية ومع السفسطائيين والمدرسة الموهية الذين اشتهروا بالخطابة والجدل والمنطق.
المدرسة السفسطائية:
إلى جانب هذه المدارس الكثيرة التي ظهرت في الصين اشتهر مجموعة من المفكرين في القرن 5 و 4 ق.م عرفوا بالفصاحة والبلاغة والخطابة وقوة العلم، وحب الانتصار بقوة الحجة وقد عرف هؤلاء المفكرون باسم "مينج كيا" والتي تعني الجدليين وقد أطلق عليهم البعض الأخر اسم السفسطائيين، وقد قامت هذه المدرسة على إنكار الحقيقة المطلقة وأنَّ كل حقيقة فهي نسبية ترتبط بالفرد لأنّه مقياس كل شيء، ونلاحظ هنا أنَّ هذه المدرسة تلتقي في الكثير من النقاط الجوهرية مع مدرسة السفسطائيين عند اليونان من حيث اهتمامهم بالخطابة والجدل والبحث عن الانتصار من خلال الحجة، ولاشك أنَّ من تكون هذه غايته لابد أن يتلاعب بالألفاظ واستخدام كل الطرق لبلوغ غايته، كما يلتقي السفسطائيون الصينيون مع السفسطائيين اليونان في اعتبارهم الحقيقة نسبية والتي ترتبط بالإنسان وحده.
المدرسة الموهية:
تعتبر المدرسة الموهية من مدارس الفكر الصينية الكبيرة، أسسها موتسو 479 ق.م، وهو من الشخصيات الهامة في تاريخ الصين القديمة، وقد كان "موتسو" معاصرا لكونفوشيوس وواحدا من خصومه.
وقد اهتم الموهيون بالسياسة والعلم والاستقراء والاستنباط ونظرية اللغة والمنطق وينطلق موتسو في تحديداته المعرفية من قضية منطقية تعتمد الاستدلال للوصول إلى الحقيقة، وكان موتسو بحق أول من أسس المنطق الشكلاني الذي ظهر على يد أرسطو اليوناني، وقد اعتمد موتسو في منطقه على الاستقراء التجريبي إلى جانب ذلك اهتم بالانتقال من المحسوس إلى المجرد، كما أكد الموهيون على ضرورة تحديد وضبط المصطلح والاسم لأنَّ اللغة الصينية تتعدّد فيها الدلالات، لهذا فإنَّ عدم تحديد تعريفات الأشياء بدقة ووضوح يؤدي إلى الخلط المعرفي، كما تطرق الموهيون إلى الكثير من القضايا المنطقية الأخرى مثل التماثل المتبادل، والعلة والمعلول ونسبية الكون في المكان.
وقد كان الموهيون متمرسين في الخطابة التي قاموا من خلالها بنشر مبادئهم، وقد تطورت الخطابة بفضل الجدل الذي اهتمت المدرسة بتطويره وتطوير طرق الاقناع ويعتبر موتسو نفسه واحد من أكبر المجادلين في الصين، لذلك يمكن اعتباره مؤسس المنطق الصيني، وعليه يمكن اعتبار ما جاءت به الموهية من أفكار ذا قيمة وأهمية كبيرة في تاريخ المنطق.
خاتمة:
ممَّا سبق ذكره يتضح لنا أنَّ الصين شيدت واحدة من أقدم الفلسفات الإنسانية إلى جانب الهنود، ولا شك أنَّ ما قدمناه مع مختلف فلاسفة الصين ومدارسها إنَّما يوحي بتعدد وتنوّع المسائل التي طرحوها وبحثوا فيها سواء في الفلسفة أو الأخلاق أو السياسة أو المنطق وغير ذلك، فكانت مساهمتهم واضحة في مجال المنطق خاصة مع كونفوشيوس في بحثه عن التعريفات وعن العلاقة بين الأسماء ومسمياتها، ولذلك يتحدث كونفوشيوس عن "تصويب الأسماء" كما استخدم القياس، كما اهتم الحكيم ميي_تي بالقياس والاستقراء، واشتهر السفسطائيون الصينيون بالخطابة والبلاغة والفصاحة، واهتمت المدرسة الموهية بالعلم والاستقراء والاستنباط ونظرية اللغة والخطابة والمنطق.
المراجع:
1- الإرهاصات الأولى للنظريات أرسطو المنطقية: بحث زروقي كمال، جامعة وهران، 2019
2- الأسس الأولى لنشأة علم المنطق في المدارس الطبيعية اليونانية الأولى دراسة تحليلية نقدية: زروقي كمال، جامعة وهران، 2020
#بحث #في #الأصول #الشرقية #للمنطق
#A #study #of #the #eastern #origins #of #logic