ورقة بحث : قراءة في كتاب تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية لكارل ياسبرز

0

 مقدمة:

يُعدّ كارل ياسبرز أحد رواد الفلسفة الوجودية. تأثّر ياسبرز بشكل كبير بدراسته لعلم النفس، ممّا انعكس بوضوح في طرحه لعلم النفس الوجودي. ساهم هذا التأثير في تشكله الفلسفي وجعله ينضمّ إلى مارتن هايدغر في تأسيس المدرسة الوجودية الفلسفية.

يُمثّل كتاب "تاريخ الفلسفة" لـ ياسبرز المحاولة الثانية والأخيرة لتأريخ الفلسفة، بعد كتابه الضخم "الفلاسفة العِظام". يُعدّ تأريخ الفلسفة مهمّةً شاقةً بالنسبة للفيلسوف، إذ يتطلّب منه اتّخاذ موقفٍ محدّد من مختلف المذاهب الفلسفية. ولذلك، تُلاحظ بوضوح تأثيرات المنهج الظاهري على منهج ياسبرز في هذا الكتاب، بدءًا من نظرته للتفلسف إلى الإطار الزمني إلى التاريخ العيني للفلسفة، وذلك على الرغم من محاولته عرض مختلف المذاهب الفلسفية بشكلٍ موضوعيّ. 

المؤلف:

كارل ياسبرز (1889-1969): فيلسوف ألماني وجودي، يُعدّ من أهمّ رواد المدرسة الوجودية في القرن العشرين. اشتهر بأعماله في الفلسفة الوجودية، وأخلاقيات المعرفة، وفلسفة الدين.

المترجم:

عبد الغفار مكاوي: أكاديمي مصري، وأستاذ للفلسفة بجامعة عين شمس. له العديد من الترجمات الفلسفية المهمة، من بينها ترجمة كتاب "تاريخ الفلسفة الغربية" لبرتراند راسل.

قام المترجم عبد الغفار مكاوي بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية، ونشرته دار نهضة مصر في عام 1962. 

تُعدّ ترجمة مكاوي من أفضل الترجمات العربية للكتاب، حيث تميزت بأمانتها ودقتها، ونقلها للأفكار الفلسفية المعقدة بأسلوب سهل الفهم.

هذا الملخص لنسخة PDF من الكتاب طبعة 2017م مؤسسة هندواي.

أهم أفكار الكتاب:

1- في مقدمة كتابه ناقش ياسبرز الأفكار التالية:

قدم تساؤلات حول كيفية فهمنا لتاريخ الفلسفة وتراثها، وكيفية تقييم محاولات إعادة كتابته.

صعوبات كتابة تاريخ الفلسفة:

ضخامة التراث: يصعب على شخص واحد معرفة كل النصوص الفلسفية بدقة.

تعدد التفسيرات: تحتمل النصوص الأصلية تفسيرات لا حصر لها.

الذاتية: تعكس كتابات تاريخ الفلسفة أسلوب تفكير أصحابها ونزعاتهم.

غموض الوجودية: تبقى بعض جوانب التصور غامضة من الناحية الوجودية.

دور مؤرخ الفلسفة:

المعرفة الذاتية: على مؤرخ الفلسفة أن يفهم نفسه ووجهة نظره.

التواضع الفكري: لا ينبغي له أن يتبنى وجهة نظر ثابتة.

السعي للفهم الشامل: ينبغي له أن يسعى لفهم تاريخ الفلسفة من منظور شامل.

المشاركة في التفلسف: ينبغي له أن يشارك في نهر التفلسف العام.

إنتاج صور متعددة: ينتج صوراً متعددة لتاريخ الفلسفة تتفاعل مع بعضها البعض.

2- الفلسفة بمعناها الصحيح وتاريخ الفلسفة (فكرة الفلسفة الخالدة) 

يقدم ياسبرز وجهتي نظر مختلفتين حول العلاقة بين الفلسفة وتاريخها:

النظرة التقليدية: ترى أن تاريخ الفلسفة هو مجرد سلسلة من الأخطاء التي تم تجاوزها، وأن الحقيقة الفلسفية تتقدم مع مرور الوقت وتصل إلى ذروتها في اللحظة الحالية.

النظرة النقدية: ترى أن الفلسفة ليست علماً دقيقاً ذا حقائق مطلقة، بل هي محاولة لفهم الوجود الإنساني بشكل شامل. ولهذا، فإن تاريخ الفلسفة مهم لفهم الأفكار الفلسفية المختلفة وكيف تطورت عبر الزمن.

خصائص الفلسفة:

كما حدد الخصائص الرئيسية للفلسفة على النحو التالي:

البحث عن الدقة: تسعى الفلسفة إلى استخدام المنطق والأدلة لبناء نظريات متماسكة حول العالم.

النظم الفلسفية: لكل فيلسوف نظامه الخاص الذي يعكس وجهة نظره حول العالم.

الحوار الفكري: الفلسفة هي عملية مستمرة من الحوار والنقاش بين الفلاسفة عبر الزمن.

الوحدة والتعدد: تمثل الفلسفة الخالدة وحدة شاملة، بينما تتجلى في أشكال متعددة عبر التاريخ

الفرق بين تاريخ الفلسفة وتاريخ العلم:

وفي معرض نقده للتصور التقليدي لتاريخ الفلسفة حدد الكاتب الفروقات الجوهرية بينها وبين تاريخ العلم كالتالي:  

محدودية تاريخ العلوم: يختلف تاريخ الفلسفة عن تاريخ العلوم، ففي حين يمثل تاريخ العلوم جزءًا أساسيًا من دراسة تلك العلوم، فإن تاريخ الفلسفة هو موضوعها الأساسي.

شمولية الفلسفة: تختلف الفلسفة عن العلوم في أنها لا تسعى فقط إلى المعرفة الدقيقة، بل تهتم أيضًا بالقيم والمعنى والحقيقة المطلقة.

أهمية تاريخ الفلسفة: يقدم تاريخ الفلسفة فهمًا أعمق للطبيعة البشرية، ويساعد على تقييم الأفكار الفلسفية المختلفة، ويوضح تطور الفكر الإنساني.

3- إدراك الحقيقة والواقع في تاريخ الفلسفة (اختيار الأساسي والجوهري) 

يناقش ياسبرز طبيعة فهم تاريخ الفلسفة، مؤكداً على ضرورة تجاوز النظرة الضيقة التي تقتصر على المعرفة الموضوعية أو تحكمها معايير محددة.

الإحساس بواقع "الشامل": لفهم تاريخ الفلسفة، يجب على المرء أن يكون لديه إحساس بواقع "الشامل"، وهو الواقع الذي يتجاوز حدود المعرفة العلمية والفلسفية التقليدية.

التجرد من الأحكام المسبقة: يجب على المرء أن يتجرد من أي أحكام مسبقة أو أفكار مسبقة عند دراسة تاريخ الفلسفة.

الوجود ممكن: الفلسفة ليست رصيدًا ثابتًا من المعارف، بل هي وجودٌ ممكن يتواصل مع وجوداتٍ أخرى في الماضي.

العلاقة بين الوجود الحاضر والماضي: الماضي له تأثير عميق على الحاضر، ويفهم المرء نفسه من خلال استيعاب أفكار الفلاسفة السابقين.

استيعاب أفكار الفلاسفة السابقين: من المهم استيعاب أفكار الفلاسفة السابقين دون التقيد بها بشكلٍ أعمى.

الانفتاح على الوجود الواقعي: نقطة المرجعية لفهم تاريخ الفلسفة ليست وجهة نظر معينة، بل هي الانفتاح على الوجود الواقعي. 

4- الخصائص الأساسية لتصور تاريخ الفلسفة تصورًا له معناه 

يُقدم ياسبرز رؤية شاملة لتاريخ الفلسفة، مُتضمنًا خصائص أساسية يجب أن يتمتع بها هذا التاريخ ليكون مُفيدًا وفهمًا عميقًا.

الخصائص الأساسية لتاريخ الفلسفة:

1. العالمية:

شمولية المكان والزمان: يمتد تاريخ الفلسفة ليشمل جميع الحضارات والأفكار الفلسفية على مر العصور، مُتنبّهًا للتفاعلات والتأثيرات المتبادلة بينها.

المرآة: يُمثّل تاريخ الفلسفة مرآةً تعكس الوجود الإنساني بمجمله، مُمكّنًا الفرد من فهم ذاته وموقعه في العالم.

تعدد الظواهر: يُظهر تاريخ الفلسفة غنى وتنوع الأفكار الفلسفية، مُبيّنًا أوجه الاتفاق والاختلاف بينها.

التواصل: يُشجع تاريخ الفلسفة على التواصل والحوار بين مختلف الثقافات الفلسفية، سعيًا لفهم مشترك للوجود الإنساني.

2. العيانية (الحَدس):

إعادة التفكير: يتطلب فهم الأفكار الفلسفية إعادة التفكير فيها ضمن سياقها التاريخي والثقافي.

الوصول إلى الجوهر: تسعى العيانية (الحَدس) إلى الوصول إلى الجوهر المُتضمّن في الأفكار الفلسفية، مُتجاوزةً التفسيرات السطحية.

رؤية الأبدي: تُمكّن العيانية (الحَدس) من إدراك الأبعاد الأبدية للأفكار الفلسفية، حتى وإن كانت مُتجسّدة في ظواهر تاريخية محددة.

النماذج والصور: تُستخدم النماذج والصور كأدوات لفهم الأفكار الفلسفية المعقدة، مع إدراك نسبيّتها وقابليّة مراجعتها.

3. البساطة:

التركيز على الجوهري: ينبغي لتاريخ الفلسفة أن يُركّز على الأفكار الفلسفية الجوهرية، مُتنبّهًا للتفاصيل المهمة دون الوقوع في فخّ التجميع المُفرط للمعلومات.

التنظيم المنطقي: يجب تنظيم تاريخ الفلسفة بشكلٍ منطقي يُسهّل فهمه وترابط أفكاره.

الوضوح: ينبغي استخدام لغة واضحة ومباشرة في كتابة تاريخ الفلسفة، مُتجنّبًا المصطلحات المُعقّدة دون داعٍ.

5- الإقبال على تاريخ الفلسفة عن رغبة واهتمام هو نفسه نوع من التفلسف 

يشرح الكاتب أنّ إقبالنا على تاريخ الفلسفة يدلّ على رغبة فطرية لدينا في التفلسف. ويؤكد على أنّ فهم الفلسفة يتطلب منا أكثر من مجرد معرفة اللغة التي كتبت بها، بل يتطلب منّا أن نضع أنفسنا في مكان الفيلسوف ونشارك في تفكيره.

الفهم الحقيقي للفلسفة:

يُعرّف الفهم الحقيقي للفلسفة بأنّه القدرة على إدراك الأفكار الفلسفية حتى لو كانت مضادة لنا أو غريبة علينا. ويؤكد على أنّ هذا الفهم يتطلب منّا التواضع والاعتراف بحدود معرفتنا.

الاستيعاب المتبادل بين تاريخ الفلسفة والتفلسف الشخصي:

يُشير  إلى أنّ استيعاب تاريخ الفلسفة يتفاعل مع تفلسفنا الشخصي ويُثريه. ويُحذّر من محاولة توجيه تاريخ الفلسفة أو بنائه من وجهة نظر فلسفية محددة، لأنّ ذلك سيُفقده طابعه التاريخي.

عدم وجود حقيقة واحدة في تاريخ الفلسفة:

يُفند فكرة وجود حقيقة واحدة في تاريخ الفلسفة. ويؤكد على أنّ تاريخ الفلسفة مليء بأصوات متعددة المعاني، وأنّ محاولات تحديد وجهة نظر واحدة ستكون نوعًا من الوثنية الجديدة.

التاريخ المتغير لتاريخ الفلسفة:

يُشير إلى أنّ نظرتنا لتاريخ الفلسفة تتغير مع تغير تفكيرنا الفلسفي. ويُؤكد على أنّ هذا التغير ضروري لفهم تاريخ الفلسفة بشكل أفضل.

الواقع كمرجعية لفهم تاريخ الفلسفة:

يُؤكد على أنّ فهم تاريخ الفلسفة يجب أن ينطلق من الواقع، وأنّ على مؤرخ الفلسفة أن يبدأ بفحص الوقائع وتحديد معناها.

تاريخ الفلسفة كحركة متجددة:

يرى الكاتب أنّ تاريخ الفلسفة ليس مجرّد مجموعة من الأفكار الثابتة، بل هو حركة متجددة يمكن أن تُلهمنا وتُساعدنا على فهم العالم بشكل أفضل.


يُختتم الكتاب بتأكيد ياسبرز على أنّ دراسة تاريخ الفلسفة هي دراسة فلسفية، وأنّ التاريخ الصحيح للفلسفة يجب أن يُؤدي إلى تعمق التفكير الفلسفي.


الخاتمة:

يرى بعض النقاد أن كتاب "تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية" يُركز بشكل كبير على الفلسفة الغربية، بينما لا يُعطي اهتمامًا كافيًا للفلسفات الشرقية، كما يرى البعض الآخر أن أسلوب ياسبرز في الكتابة قد يكون صعبًا على بعض القراء.

لكن الكتاب مع ذلك يُعد من أهم كتب تاريخ الفلسفة، وقد أثّر بشكل كبير على العديد من الفلاسفة والمثقفين.

كما يعد مرجعًا هامًا لطلاب الفلسفة وللمهتمين بتاريخ الفكر الإنساني. يُقدم الكتاب نظرة مبتكرة لتاريخ الأفكار الفلسفية وتأثيرها على تطور الفكر الإنساني.


قراءة في كتاب تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية لكارل ياسبرز 

يتم التشغيل بواسطة Blogger.