ورقة بحث : فلسفة ومنهج ابن خلدون

0

 تتخذ فلسفة ابن خلدون عدة جوانب ، إنطلاقا من فلسفته الاجتماعیة والتي وضع من خلالها تفسیر للعصبیة وروح الاجتماع وروح السیاسة ، إلى فلسفة التاریخ من وجهة نظره والتي اعتمد فیها على وجود مناهج تصنف الوقائع إلى صنفین ، الصنف الأول : الوقائع الاقتصادیة والجغرافیة ، ثم تأتي الوقائع النفسیة التي هي نتیجة للوقائع الأولى إلى حد كبیر ، وتضمینه لفلسفة التاریخ ثلاث حركات متضایفة من حركات الوعي : حركة الوعي بالذات ، حركة الوعي بالمجتمع ، حركة الوعي بالتاریخ .

كما لا يجب إغفال فلسفة ابن خلدون الخُلقیة والتي تكلم فیها عن الفضائل التي یُعجب بها ، اما اشتغاله بمسائل الفلسفة فلا تخفى علاقة ابن خلدون بالمنطق الأرسطي وعلاقته ببعض الفلاسفة العرب ، وعلاقته بالعامة الذین رأى بأنهم أوفر حظاً في الحصول على السعادة في الحیاة الدنیا والآخرة من الفلاسفة والذین هم برأیه المتوافق مع رأي الغزالي قد شذوا عن الدین والشرائع السماویة.

فهل بالفعل كان ابن خلدون فیلسوفاً ؟ ، وما سبب خوف ابن خلدون من " تهمة " الفلسفة؟.

المبحث الأول:

1- التعريف بابن خلدون :

هو عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن جابر، ، و حصل على لقب ابن خلدون نتیجة نسبه إلى جده التاسع خالد الذي شارك في فتح الأندلس وكان يدعى خلدون تعظيما له على عادة أهل الأندلس،

في تونس في غرة رمضان من عام 732 ه ( 27 أیار 1332 م )، وكان ینتمي إلى عائلة عریقة ونبیلة معروفة في اشبیلیة وتونس بدور أفرادها السیاسي والفكري ، ونتیجةً لكون تونس في ذلك الوقت مركز للعلماء وأهل الفكر ومستقر لِألمع العلماء والأدباء الذین رحلوا من الأندلس ومن غیرها ، استفاد منهم بأن أصبحوا معلموه وأساتذته بالإضافة إلى والده ، وهذا كله ساهم في صقل شخصیته وتنمیة فكره واكتسابه لعلمه وإعداداته لمهارات الإدارة والحكم .  

هناك العدید من الباحثین والمؤرخین الغربیین الذین أبدوا تقدیرهم وإعجابهم لما جاء به ابن خلدون من علم وأفكار ومنهم المؤرخ البریطاني أرنولد توینبي الذي قال عنه " قد أدرك وتصور وأنشأ فلسفة للتاریخ ، هي بلا شك أعظم عمل من نوعه خلقه أي عقل في أي زمان ومكان " ، أما روبرت فلینت فقال " من جهة علم التاریخ أو فلسفة التاریخ یتحلى الأدب العربي باسم من ألمع الأسماء . فلا العالم الكلاسیكي في القرون القدیمة ، ولا العالم المسیحي في القرون الوسطى ، یستطیع أن یقدم اسما یضاهي في لمعانه اسم ابن خلدون".

2- فلسفة ابن خلدون :

قام إبداع ابن خلدون في تطبیق منهاج الترصد والمشاهدة على دراسة المجتمعات ، بالتوفیق مع أسلافه من أعاظم فلاسفة العرب في مؤلفاتهم عن العلوم الطبیعیة والطب ، ولا یوجد دلیل صریح على ارتباط ابن خلدون بمفكري اليونان القدیمة كما صنع فلاسفة العرب نحو منطقیات أرسطو مثلاً ، وكان كتابا اليونان القدیمة الرئیسان اللذان یُمكن أن یوحیا إلى ابن خلدون مجهولین لدیه ، وهما : كتاب السیاسة لأرسطو ، وكان لا يزال مفقودا في ذلك العصر ، وكتاب الجمهوریة لأفلاطون ، وبالتالي عدم وجود ارتباط بينها وبین مقدمة ابن خلدون ، وعليه كان لزاماً البحث في مقدمته للتعرف على فلسفته الخاصة وتفسیر اتجاه مباحثه.1

ركز في مقدمته على علم التاریخ وعلى خطورة هذا العلم ، لما له أهمیة خاصة في نظریته الجدیدة التي وضعها " علم الاجتماع الإنساني و العمران البشري " ، وقد ركز علیه في فصول مقدمته حتى یلفت أنظار الدارسین إلى الأهمیة القصوى لهذا العلم تقییماً وفلسفة وتصویباً.

قام ابن خلدون بالفصل التام بین الفلسفة والوجود حتى لا یقع في المآزم و المشكلات التي تواجهها الفلسفة الفیضیة ، ، وهذا یعني بأن التاریخ هو الفلسفة في حالة التحقق والفلسفة هي التاریخ في حالة التعقل ، ویرى ابن خلدون بأن التاریخ العربي الإسلامي قد وصل إلى حالة التعقل وقد شارف على الوصول إلى الحكمة الكاملة ولكن تعرض لبعض العقبات التي منعت ذلك وهي عدم بروز الإنسان فیه كمحور أولي.3

المبحث الثاني:

1- نقد ابن خلدون للفلسفة:

تأثر ابن خلدون في نقده للفلسفة بآراء كل من الغزالي وابن تیمیة . 

یتفق ابن خلدون مع الغزالي من خلال القول بأن العقل البشري محدود وغیر قادر على النظر في حقائق الكون إلا ضمن نطاق محدد ومعین ، وشبه ابن خلدون العقل البشري بمیزان الذهب الذي لا یمكن استخدامه عند وَزن الجبال ، ومن وجهة نظره فإن العقل البشري عاجز عن فهم الأمور الاجتماعیة بالإضافة إلى الأمور الإلهیة، يقول ابن خلدون : "ومن هنا یتبین أن صناعة المنطق غیر مأمونة الغلط لكثرة ما فیها من الانتزاع وبعدها عن المحسوس ... ".

و في الفصل الذي وضعه بعنوان " في إبطال الفلسفة وفساد منتحلیها " ، فقد تحدث من خلاله بقصور المنطق الذي یتبعه الفلاسفة من ناحیتین :الأولى من ناحیة النظر في الإلهیات ، والثانیة من ناحیة النظر في الموجودات الجسمانیة والتي تسمى من قبلهم بالعلم الطبیعي ، فالنتائج الذهنیة التي یتم التوصل إلیها تستخرج بشكل غیر یقیني ، كما أنه أشار إلى أن بعض العلوم تخضع لمنطق أرسطو كعلم الهندسة والحساب ، أما العلوم التي لا تخضع لهذا المنطق فهي العلوم والمعرفة الاجتماعیة.

لقد قام ابن خلدون بتقدیم نقد شدید للمنطق الذي انتهجه الكثیر الفلاسفة ، وقد سار بشكل مشابه لمسار الغزالي قبله، وتحدث بأن المنطق القدیم لا یفید إلا بشكل محدود جداً ، ففي البدایة جاء الغزالي وحدد نطاق الاستفادة من المنطق ثم تبعه ابن تیمیة وجاء ابن خلدون لیزید هذا التحدید ، فهذا المنطق في رأي ابن خلدون یفید فقط في ترتیب الأدلة ، فالباحث لا یستخدم المنطق إلا بعد الانتهاء من البحث من اجل أن یقیم البراهین بشكل مرتب ومنسق ، أما استخدام المنطق بطریقة تختلف عن ذلك حسب رأیه تؤدي إلى نتائج خاطئة.

2- منهج ابن خلدون: 

يتسم منهج ابن خلدون في الناحیة التاریخیة بالنقد الدقیق ، فهو لم یكتفِ بالحدیث عن التاریخ والمؤ رخین وأخطائهم وضرب الأمثال ، بل كان یتطرق إلى هذا العلم في العدید من فصول مقدمته المتعلقة بالعمران ، فمثلاً في فصل " طبیعة العمران في الخلیقة " ، ذكر بأن التاریخ یخبر عن الاجتماع الإنساني ، فهو وسیلة للتعرف على المجتمعات الإنسانیة من خلال دقة الخبر و صدق الروایة ، وإن لم یحدث ذلك هو مزیف، حيث تعرض هذا العلم حسب ابن خلدون إلى العدید من أشكال التحریف و التشویه دون أن تدرك الأجیال المتعاقبة ذلك .

فلقد قام بإخضاع العدید من الأمثلة للنقد من خلال بعض الأسس التي وضعها هو وفي النهایة قام برفضها كما رفضها من قبله ، ومن الأمثلة على ذلك ، " خبر رواه المسعودي عن الإسكندر الأكبر حین فتح مصر وأراد بناء الإسكندریة فصدته دواب البحر عند بنائها ، فاتخذ صندوق الزجاج وغاص فیه إلى قاع البحر حتى صور تلك الدواب الشیطانیة التي رآها وعمل تماثیلها من أجساد معدنیة ونصبها حذاء البنیان ففرت الدواب . لقد حلل ابن خلدون هذه الروایة بأسالیب شتى وانتهى إلى أنها حدیث خرافة مستحیلة.

ویحلل ابن خلدون أخبار المؤرخین وروایاتهم التاریخیة على أساس بعض المعاییر التي توصل إلیها من خلال الممارسات الاستق ا رئیة ، والعلل العقلیة وأرجع أسباب الخطأ إلى العوامل التالیة :

1- المیل إلى التحیز إلى أ ري من الآ ا رء أو فئة من الفئات مما یؤدي إلى تصدیق كل الأفكار و الأخبار التي توافقها

2- التعدیل والجرح نتیجة للثقة بمن ینقلون هذه الأخبار دون التأكد منها .

3- التقرب إلى أصحاب المناصب الرفیعة من خلال المدح والثناء مما یجعل الناس تتناقل الأخبار التي تحمل الغلو والمبالغة فتضیع الحقیقة معها .

4- الخروج عن الهدف و المقصد الحقیقي للخبر لأن الناقل یقع في تخمینه وظنه فهذا یؤدي إلى الوقوع في الكذب .

5- نتیجة الثقة بالأشخاص الذین ینقلون الأخبار فیحدث هناك نوع من التوهم بالصدق .

6- عدم المعرفة بطبائع الأحوال في المجتمعات ولدى الجماعات ، فلكل حادثة وروایة وخبر ظروف خاصة بها فهذا یؤدي إلى الوقوع في الخطأ.


الخاتمة:

عند محاولة تحدید موقع ابن خلدون من الفلسفة یجب أولا تعریف الفلسفة والفیلسوف ، فقد كان " الفیلسوف " لقب یطلق على من اتبع طریق الفلسفة الإغریقیة واستخدم المصطلحات الفلسفیة التقلیدیة مثل الهیولي والتسلسل وواجب الوجود والدور ، وكان هذا المفهوم یطلق قدیماً وفي العصر الإسلامي ، لذلك كان عدد الفلاسفة محدود وكان منهم ، الفارابي و ابن سینا وابن رشد ، وأي شخص ینقد هذا المسار یعتبر خارج دائرة الفلاسفة. أما حدیثاً فقد اختلف مفهوم الفلسفة والتي عرفت بأنها " كل محاولة عقلیة یأتي بها مفكر لتفسیر الكون ومكان الإنسان فیه "، ومن خلال هذه التعریفات یصبح ابن خلدون فیلسوف من الدرجة الأولى ، فجمیع أفكاره كانت تدور حول الكون والمجتمع وما توصل إلیه الفكر البشري من الفلسفة في ما سبقه من عصور.2


المراجع:

1- بوتول ، غاستون .( 1984 ). فلسفة ابن خلدون الاجتماعیة ، عادل زعیتر ، بیروت : المؤسسة العربیة للد ا رسات والنشر.

2- الوردي ، علي .( 1994 ). منطق ابن خلدون ،  بیروت : دار كوفان للنشر .

3- نصّار ، ناصیف .( 1985 ). الفكر الواقعي عند ابن خلدون ، بیروت : دار الطلیعة للطباعة والنشر .


فلسفة ومنهج ابن خلدون


يتم التشغيل بواسطة Blogger.