ورقة بحث : كتاب تهافت التهافت لابن رشد : مسألة قدم العالم

0

 اعتمدت في دراسة مسألة قدم العالم كما عالجها ابن رشد في كتابه تهافت التهافت على كتاب المفكر المغربي محمد عابد الجابري تحت نفس العنوان "تهافت التهافت"، طبعة مركز دراسات الوحدة العربية لسنة 1998م، هذا الكتاب الذي اتسم بالعمق والتوسع معا على عادة الجابري وبأسلوب سهل واضح وفق فيه ليس فقط في اظهار روعة هذا النقاش الراقي بين أعمدة الفلسفة الإسلامية متشخصة في ابن سينا والغزالي وابن رشد، بل وأضاف عليها الجابري لمسته في نفض الغبار الكثيف الذي أخفى الظروف التاريخية، السياسية والمذهبية التي كانت الدافع الرئيسي لهذا النقاش ووسطه الذي ازدهر فيه.  

وصف الكتاب :

كتاب"تهافت التهافت" لأبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد هو رد مباشر على كتاب الغزالي "تهافت الفلاسفة، سلك فيه فيلسوف قرطبة الطريقة نفسها - تقريبا- التي سلكها في شروحه المطولة على كتب أرسطو: حيث يتتبع الكتاب فقرة فقرة ويقوم بإبداء الرأي: يأتي بكلام الغزالي، كاملا في الأعم الأغلب؛ وأحيانا يعيد تلخيصه بأسلوبه هو قبل أن يرد عليه، وأحيانا يقاطعه ليدلي بتعليق أو ترضيح؛ قبل أن يتركه يواصل الكلام. 1 

وفي أحيان قليلة يقتصر ابن رشد على تلخيص نص الغزالي أو يذكر جملة أو جملتين منه ثم يشير إلى نهاية الفقرة التي سيناقشها بعبارة: "إلى قوله...". هذا باستثناء المسألتين التاسعة عشرة والعشرين اللتين لم يذكر نص كلام الغزالي فيهما لكونهما تتناولان موضوعا هو في نظره من اختصاص الدين وحده؛ موضوع "البعث ": هل سيكون للنفوس وحدها أم لها وللأجساد؟ وكان ابن سينا قد تكلم فيه برأي فرد عليه الغزالي. أما فيلسوف قرطبة فقد فضل عدم الانخراط في الخدال حول هذه المسألة؛ لأنها عنده من مبادئ الدين لا من قضايا الفلسفة» فاكتفى بإبداء رأيه في المسألة ككل. وهكذا فبنية كتاب ابن رشد "تهافت التهافت" هي في الجملة نفس بنية كاب الغزالي "تهافت الفلاسفة"، والذي قصد بعنوانه تناقض آراء الفلاسفة وعدم بلوغها مرتبة اليقين.1

موقف ارسطو من مسألة قدم العالم

كان أرسطو يعتقد بقدم العالم وقدم الحركة وله في ذلـك حجـة كليـة وجيهـة بعـض الشـيء، منصــبة علــى قــدم الحركـة ولكنهـا قائمـة علـى مبـدأ كلـي فيجـب تقـديمها فالعلـة الأولـى ثابتـة هـي هـي دائمـا لهـا نفـس القدرة ومحدثة نفس المعلول فلو فرضـنا وقتـا لـم يكـن فيـه حركـة لـزم عـن هـذا الغـرض ان لا تكـون حركـة ابـدا ولـو فرضـنا علـى العكـس ان الحركـة كانـت قـدما لـزم انهـا تبقـى دائمـا 3 

فيرى ارسطو واتباعه ان العالم قديم من خلال استدلالهم على انه يستحيل حدوث حادث مـن قـديم مطلقا فأرسطو يعتبر ان الزمن ليس شيئا حقيقيا ثابتا وانما هـو مظهـر فقـط يعتقد ان هذه الزمنية عرضية ومسالة ظاهرية لا حقيقـة لهـا وان العلاقـة ليسـت زمنيـة ولا علاقـة مـؤثر بـاثر انمـا هي علاقة منطقية 

أي انها علاقة مقدمة بنتيجة فالله مقدمة منطقيـة والعـالم النتيجـة واالله مـنح العـالم وجـوده كمـا تمـنح المقدمــة النتيجــة وجودهــا فالنتيجــة فــي القضــية المنطقيــة تتبــع المقدمــة اعنــي المقدمــة تــذكر اولا والنتيجة ثانيا ولكن جاءت اولا في الفكر لا فـي الـزمن فالتقـدم والتـأخر فـي المقدمـة والنتيجـة فكـري لازمني وكذلك واجب الوجود او مفـيض الوجـود علـى العـالم عنـد ارسـطو هـو اول فـي الفكـر لافـي الــزمن3

رأي ابن سينا :

يـرى ابــن ســينا ان العــالم قــديم بالزمــان حــادث بالــذات قــديم بالزمــان بمعنــى انــه لا أول لوجــوده ، وحادث بالذات بمعنى انه معلول لسبب الاول واجب الوجود ومعلوم ان العلة سابقة ذاتيا لا زمانيا فعند ابن سينا ان االله متقدم على العالم بالذات لا بالزمـان حتـى لا يفضـي الـى القـول بوجـود زمـان قبل هذا الزمان3

جوهر مشكلة قدم العالم :

طرح "الفلاسفة" وعلى رأسهم ابن سيناء المسألة على هذا الشكل: 

فالمنطلق عندهم هو صعوبة التخلص من الإشكالات المنطقية التي تلازم القول ب "حدوث العالم"؛ وهي الإشكالات التي لم تزدها نظرية الجوهر الفرد عند المتكلمين إلا تعقيدا. وفي مقدمة هذه الإشكالات، أن القول بأن العالم "حادث" بالمعنى الذي يعطيه الأشعرية ل "الحدوث"؛ وهو أن الله كان منذ الأزل وحده، لاشيء معهه ثم شاءت إرادته أن يخلق العالم، فخلقه؛ 

هذا القول يدفع إلى التساؤل: كيف نفهم أن الإرادة الإلهية شاءت في وقت ما خلق العالم؟ 

ما الذي جعل الإرادة الإهية لا تخلق العالم قبل وقت خلقه أو بعده؟ 

هل يرجع ذلك إلى قيام "مرجح”، رجح عملية الخلق في وقت دون آخر؟ 

هذا لا يمكن! لأن فكرة "المرجح”، سواء كانت دافعا داخليا أو حافزا خارجيا، لا معنى لها بالنسبة إلى الله المنزه عن الوقوع تحت أي تأثير مهما كان.1 

ولتجاوز هذا الإشكال المنطقي سلك ابن سينا مسلكا اعتقد أنه سيقدم به بديلا عن نظرية الأشعرية؛ فقال: إن "الحدوث" بالمعنى الذي يفهمه المتكلمون لا يمكن البرهان عليه ولا تجنب مشكل "المرجح" فيه؛ ولذلك ينبغي التخلي عن مقولتي "الحدوث" و "القدم "، وهما مقولتان "كلاميتان"؛ أي من وضع المتكلمين؛ والنظر في الأمر من زاوية مقولتين فلسفيتين هما: "الممكن" و"الواجب"؛ وكان الفارابي قد وظفهما من قبل في هذا المجال.

اعتراض الغزالي :3

الوجه الأول : ان يقال للفلاسفة : بما تنكرون على مـن يقـول علـى ان العـالم حـدث بـإرادة قديمـة اقتضت وجوده في الوقت الذي وجد فيه واما دعواهم باستحالة تعلق ارادة قديمة بأحداث شـيء مـا فيعتبرونهــا مــن الضــروريات البديهيــة ، وهــي ليســت كــذلك ، فكيــف تكــون بديهيــة وخصــومها لا يحصرهم بلد ولا يحصيهم عدد وباطل ذلك تمثيل الفلاسفة للإرادة الالهيـة القديمـة بـالإرادة البشـرية الحادثة التي لا يمكن لمرادها ان يتأخر عن ظهورها .

والوجـه الثـاني : يسـتبعد دليـل الفلاسـفة حـدوث حـادث مـن قـديم ولكنـه لابـد لهـم مـن الاعتـراف بـه فـان فـي العـالم حـوادث ولهـا أسـباب والحـوادث لا تسـتند الـى الحـوادث الـى غيـر نهايـة فيجـب ان تنتهي الى طرف وهذا الطرف قديم

رأي ابن رشد :

ناقش ابن رشد الخلاف القائم بين القائلين بأن العالم مخلوق محدث بعد أن لم يكن، وبين الفلاسفة القائلين بأن العالم قديم أزلي مع الاعتراف بأنه مخلوق. فيقول ابن رشد أن الخلاف في هذه المسألة يعود إلى اللفظ، أي خلاف لفظي غير جوهري، لأن في الوجود طرفين وواسطة لقد اتفق الجميع على الطرفين وهما:

أولاً: هناك واحد بالعدد قديم ـ الأول الذي ليس قبله شيء.

ثانياً: هناك على الطرف الآخر كائنات مكونة، وهي عند الجميع محدثة، ولكنهم اختلفوا في هذا العالم بجملته أقديم هو أم محدث؟ فيواصل الفيلسوف مناقشته قائلاً: "إن العالم في الحقيقة ليس محدثاً حقيقياً ولا قديماً حقيقياً لأن القول: إنه محدث حقيقي فاسد ضرورة لأن العالم ليس من طبيعته أن يفنى أي لا تنعدم مادته، والقدم الحقيقي ليس له علة والعالم له علة!!.

إذاً العالم محدث إذا نظرنا إليه من أنه معلول من الله، والعالم قديم إذا اعتبرنا أنه وجد عن الله منذ الأزل من غير تراخ في زمن، الخلاصة أن العالم بالإضافة إلى الله محدث، وبالإضافة إلى أعيان الموجودات قديم".4

وعليه فابن رشد يرى أن كلا الرأين متهافت: 

فقول ابن سينا ب"الممكن بذاته الواجب بغيره"؛ قول متناقض متهافت؛ 

لأنه يجمع بين شيئين متقابلين، كل منهما من طبيعة مختلفة: ف "الممكن" من طبيعته أنه يمكن أن يوجد وأن لا يوجد. بينما "الواجب" هو "الضروري الوجود". والقسمة العقلية تقتضي إما أن يكون الشيء ممكنا، وإما ضروريا، وإما ممتنعا. ولا يمكن أن يكرن "الممكن" واجباء بذاته أو بغيره، إلا إذا انقلبت طبيعة الممكن إلى الواجب، وهذا إلغاء للممكن!

أما احتجاج الغزالي ب "تراخي" الإرادة؛ فاحتجاج فاسد. 

أولا: لأن الإشكال سيبقى: ما الداعي إلى "التراخي"؟ هل هناك عامل ما خارجي أو داخلي، وهذا يعود بنا إلى الحاجة إلى مشكل "المرجح"؟! 

ثانيا: يجب أن نتفق على معنى الإرادة نفسها، لنرى هل يعقل القول بتراخيها أو لا يعقل؟ 

يقول الغزالي: الإرادة "صفة من شأنها تخصيص الشيء عن مثله"؛ فالإرادة الإهية خصصت وجود العالم بدل عدمه! ويعقب ابن رشد متسائلا: ولماذا كان هذا التخصيص؟ ثم ما الإرادة؟ أليست هي شوق إلى فعل شيء يستكمل به المريد، أي يلبي به حاجة في نفسه؟ وهل يجوز مثل هذا القول في حقه تعال؟ وأيضا ما معن "المثل" هنا؟ وهل"الوجود" مثل ل "العدم"» أم أنه مقابل له؟ ويدور نقاش طويل عريض حول هذه المسألة.1

حقيقة موقف ابن رشد : 

كثيرا ما أسيء فهم موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم؛ حيث اتُّهم بالقول بقدم العالم، لكن هذا اتهام باطل، ومجانب للحقيقة2 

لأن ابن رشد يعتقد أن العالم مخلوق مصنوع من الله تعالى، وأن لفظ القدم والحدوث لفظ بدعي، وأن الخلاف في المسألة راجع للاختلاف في التسمية، وأن حقيقة اعتقاد ابن رشد في العالم تقوم على آيات دلالة العناية الإلهية الواردة في القرآن الکريم، فضلا عن أن ابن رشد يعارض نظرية الفيض الإلهي التي اتهم بالقول بها أيضًا، والتي يقتضي القول بها القول بقدم العالم. 2

کما أن سبب الاختلاف في الحکم على ابن رشد راجع إلى الجهل بمنهج ابن رشد وبموضوعيته التي فسرها البعض جهلا بأنها انحياز للباطل، وکذلک إلى اقتصار البعض على شروح ومختصرات ابن رشد الفلسفية التي لا تعبر عن رأيه في المسألة، مع عدم الاطلاع الکامل على جميع مؤلفاته الأصلية التي تتضمن حقيقة اعتقاده وعدم فهم کلامه وفق ما يريد ويقصد في مؤلفاته، کما في کتابه تهافت التهافت؛ إذ يظن البعض أن ابن رشد لم ينتقد فيه إلا الغزالي فقط، مع أن الحقيقة أن ابن رشد قد انتقد الفارابي وابن سينا أيضًا، ووافق الغزالي في بعض ما ذهب إليه، وأثبت أن الفارابي وابن سينا قد خالفا الفلاسفة القدماء؛ لأنهم لم ينقلوا عنهم النقل السليم، وأن علومهم ظنية، فيما نقلوا عن الفلاسفة القدماء. 2

ومما يثبت أمانة ابن رشد وموضوعيته، أنه عزا قصور الغزالي في کتابه تهافت التهافت لاقتصاره على النظر في کتب ابن سينا، وأن الفارابي وابن سينا قد شوَّهوا ما ذهب إليه الفلاسفة القدماء، ولم يعرفوا حقيقة ما ذهبوا إليه، لا سيما أرسطو ومن قبله، وذلک لعدم نقلهم النقل السليم عن الفلاسفة القدماء، ولتأثرهم بغثاء الأفلاطونية المحدثة وغيرها من الفلسفات التي لا تمثل حقيقة ما ذهب إليه الفلاسفة القدماء. 2

الخاتمة:

حــاول ابــن رشــد بإيجــاز ان يقــول ان نظريــة اقدميــة العــالم فــي أي حــال لا تتعــارض مــع القــران والشـرع ومـا الضـير ان كانـت مـادة العـالم أزليـة فـالخلق يبقـى تلـك الحركـة الاضـطرارية فـي هـذه المـادة التـي تنشـا عنهـا الكائنـات وتتولـد بعضـها مـن بعـض امـا الخـالق فهـو المحـرك وبمـا المـادة ازلية فجميع المخلوقات الناجمة عنها مشاركة لها فـي الأزليـة واالله الخـالق هـو الـذي ينظمهـا ولهـذا السـبب تتطـور المـادة وتتكيـف بطريقـة مسـتمرة وهكـذا فـان العـالم المصـنوع هـو ازلـي النشـوء دائـم الحـدوث بينمـا ان االله ازلـي بـدون سـبب وعليـه فـان اقدميـة العـالم ليسـت كازليـة االله بـل لـيس العـالم محدثا حقيقيا ولا قديما حقيقيا.

المراجع:

1- محمد عابد الجابري. (1998). تهافت التهافت. مركز دراسات الوحدة العربية. 

2- سلمان نشمي العنزي . (2021).  موقف ابن رشد من مسالة قدم العالم. مجلة  كلية الآداب جامعة القاهرة.

3- مصطفى فاضل كريم الخفاجي.(2019).المنهج النقدي عند ابن رشد للرد على الفلاسفة في مسالة قدم العالم. جامعة بابل

4- كتاب العقل والنقل عند ابن رشد. محاولة ابن رشد الحل الوسط في قضية قدم العالم. المكتبة الشاملة.


كتاب تهافت التهافت لابن رشد : مسألة قدم العالم 

يتم التشغيل بواسطة Blogger.