مذكرات توثق الحياة جنوب غرب الجزائر : بين المدرسة والقطيع

0
في بلد كان الذين يزورونه زمن العثمانيين ينبهرون من كثرة مدارسه ومساجده فيشيدون بسعة ثقافة أهله وانتشار المعارف فيهم حيث منارات العلم مشرقة من العاصمة إلى قسنطينة ومن بجاية إلى وهران وتلمسان يحج إليها الراغبون بحسب إحصاء سنة 1871م كان عدد الزوايا نحو 2000 منتشرة في ربوع الجزائر تُؤطر زهاء 28 ألف طالب علم لكن بعد قرن و30 سنة من تدمير الكتاتيب والمساجد ومصادرة الأوقاف الإسلامية وتحويلها إلى كنائس وثكنات واسطبلات وفرض اللغة الفرنسية وثقافتها وتجريم العربية وتاريخها ونفي علمائها، هاجر الفقهاء وتشرّد الطلاب وغدا المجتمع الجزائري يرزح تحت الفقر ويتخبط 85 بالمئة منه في والجهل والأمية كان الوالد في صباه تتقاذفه الظروف بين المدرسة الفرنسية وبقايا الكتاتيب العتيقة من جهة ومعيشة البدو ورعي الغنم في الطرف الآخر من الحياة

في بلد كان الذين يزورونه زمن العثمانيين ينبهرون من كثرة مدارسه ومساجده فيشيدون بسعة ثقافة أهله وانتشار المعارف فيهم حيث منارات العلم مشرقة من العاصمة إلى قسنطينة ومن بجاية إلى وهران وتلمسان يحج إليها الراغبون
بحسب إحصاء سنة 1871م كان عدد الزوايا نحو 2000 منتشرة في ربوع الجزائر تُؤطر زهاء 28 ألف طالب علم
لكن بعد قرن و30 سنة من تدمير الكتاتيب والمساجد ومصادرة الأوقاف الإسلامية وتحويلها إلى كنائس وثكنات واسطبلات وفرض اللغة الفرنسية وثقافتها وتجريم العربية وتاريخها ونفي علمائها، هاجر الفقهاء وتشرّد الطلاب وغدا المجتمع الجزائري يرزح تحت الفقر ويتخبط 85 بالمئة منه في والجهل والأمية
كان الوالد في صباه تتقاذفه الظروف بين المدرسة الفرنسية وبقايا الكتاتيب العتيقة من جهة ومعيشة البدو ورعي الغنم في الطرف الآخر من الحياة
يقول الوالد:
بعد معركة بوعمود وبعد أن وقع هجوم مجاهدين على معسكر فرنسا بمغرار التحتانية ليلا حيث وقع القتل والخطف ودخول السجن الى غير ذلك وكانت مفاجأة جريئة للمجاهدين ضد الاحتلال، قررت القوات الفرنسية نقل المعسكر الى مكان اخر وهو العقيلات بين مغرار الفوقاني والجنين فوضعت الخيام في ضيق شديد بين الاسلاك الشائكة الملغمة والمكهربة ووضعت الحراسة على الابواب لا يخرج الا الراعي وغنمه بعدما يفتش هو وحماره
اما الطفل العربي فقد ادخلوه مع رفاقه في مدرسه العُقلة ليتعلم الفرنسية وكان عمره 11 سنة عام 1959 اما عمي سليمان فكان في السجن بقي هناك حوالي السنتين حتى الاستقلال
قرر السيد الطيب الدخول الى مدينه العين الصفراء بعد ما اشترى منزلا هناك سنه 1960 وأدخل معه عائلة سليمان اخيه وعائلة أحمد المجاهد علما بانه كان مسؤولا عن أربعة عائلات، عائلته وعائلة أخيه بوعمامة الذي كان مجاهدا وعائلة أخيه سليمان الذي كان في السجن مناضل وعائلة ابن عمه أحمد المناضل في صفوف المجاهدين، أدخل الطيب ابناءه الكتاتيب ومدرسة فرنسية في العين الصفراء حتى استقلت الجزائر سنه 1962 ورفعت راية الجزائر وجاء كل من السيد أحمد والسيد بوعمامة والسيد سليمان فقدموا الى السيد الطيب بمناسبة الاستقلال فكانت الفرحة الكبرى في أوساط الشعب هناك من يضحك فرحا لقدوم غائبه وهناك من يبكي لمقتل غائبه
اما العربي الطفل فقد بدأ دراسته في الكتاتيب عند السيد بوعلام تاجي وفجأة سنه 1963 قرر الاب واخوه بوعمامة الخروج الى البادية لان المدينة لا تناسبهم فقد أصبحوا فقراء بعد الحرب كل المواشي قتلت وشردت ولم يبق شيء لأهل البادية الا القليل في هذه الحالة تغيرت الاحوال بالنسبة للطفل العربي فهل هناك من يستطيع البقاء عنده في المدينة ليكمل دراسته
تدخلت امه عند جارتها خديجة وطلبت منها بان يبقي ابنها عندهم ليقرأ فقبلت
وهكذا تنقل الطفل في كل مرة بين الجيران ومنهم عمه سليمان وأحمد وعمه بوعمامة في قرية التيوت وآخرين فعانى كثيرا لكنه صبر
ثم جاء الاب ليذهب به الى البادية سنه 1963 وكان عمه سليمان وأحمد في بشار يبحثون عن عمل وبما ان السيد أحمد كان ضابطا اثناء الثورة فكانت لديه بندقية صيد ممتازة ووجد في جبل عنتر ببشار البقر الوحشي الذي يدعي لروي الشيء الكثير هناك فانتقل مع ابن عمه سليمان الى قرب الجبل يصيدون ويبيعون اللحم في المدينة
جاء سلمان عند اخيه الطيب قرب الغويبة ليشتري الإبل ويبيعها في بشار وهنا طلب العربي من امه ان يذهب معه ليكمل دراسته في بشار وقد كان جاهلا بظروف عمه سليمان وحالته الاقتصادية فقال سليمان لامه عندما يأتي ابوه يأتي معه ليدرس في بشار
وهكذا كان عند الاب قطيع من الشياه كتجارة مع شخص آخر وأراد ان يذهب بها الى بشار لبيعها وكان شهر رمضان لذلك العام أول شهر يصومه العربي الذي كان عمره 15 سنه فذهب رفقة أبيه فوق الشاحنة مع القطيع ولم يأخذوا معهم لا ماء ولا طعام لأن أباه كان يعتقد ان سليمان الذي نزل مع أحمد ناحية لاقار بلهواري قرب الجبل في الخيام
وعندما وصلت الشاحنة قرب المكان طلب الطيب من صاحبها التوقف وانزل القطيع وذهبت الشاحنة الى بشار وصار الاب يبحث عن الخيام فلم يجد شيئا لا آثار ولا أحد يسأله سوى آثار الارانب والفئران والذئاب مع العلم كان الفصل ربيعا وكانت تلك النواحي فيها العشب الكثير وعندما يئس منهما رجع الى ابنه وقال له لم اجدهم هنا المكان خالي من الناس فقرر التوجه نحو لاقار بالهواري لعله يجد أحدا هناك يسأله أو يفطران عنده وكانت مسافه بعيده جدا اتجها بالقطيع نحوه
أما العربي فقد ادرك انهم لن يجدوا احدا في ذلك المكان فما كان عليه الا ان قطع من نبات البسباس نصيبا لكي يفطر عليه وعندما وصلا لم يجدا بالفعل احدا
وغربت الشمس فأعطى العربي الى ابيه شيئا من البسباس ليفطر عليه لكن اباه رفض واكتفى بالشمة وجلس فوق ربوه
بعد ذلك اخذ يبحث عن الاسلاك ليقطعها وساق القطيع نحو الوادي من أجل ان يرعى ولعلهم يجدون الماء وكان الليل مظلما بدون قمر
بعد التعب جمع القطيع نحو الشجرة الكبيرة من السدر واخذ الاب يمسك الكباش الكبار ويعقِل كل واحد من رجله بتلك الاسلاك ليتركه واقفا على ثلاثة أرجل حتى لا يتحرك فيجلس مرغما وتنام الماشية بجنبه، كما نزع الاب عمامته فربطها في عنق نعجة ثم طرفها الاخر في رجله ونام حتى إذا ما نفرت الغنم بسبب الذئب توقظه معها
فكان كلما نفر القطيع بسبب ذئب او ارنب ينادي الاب على ابنه العربي العربي فيقوم الابن يجري وراء القطيع يسقط هنا وهناك فوق الاشجار لأن الجو مظلم جدا حتى يتمكن من ارجاعها الى مكانها يطاردها بالأحجار حتى تهدا وتنام وبقي على تلك الحال الى الصباح، كانت ليلة مشؤومة عليهما
في الصباح لما قام العربي رأى كان الارض مصفرة وكاد يسقط من شده التعب والجوع والعطش فلاحظ الاب ذلك في وجهه فسال ابنه قائلا: ماذا نفعل الان؟ كأنه يختبره
فأجاب العربي: لا تبحث عن احمد ولا عن سليمان المهم الان ان تذهب الى الطريق لعلك تجد سيارة توصلك الى بشار لتأتينا بالأكل والماء
أخذ الأب عمامته وربط بها بطن ابنه العربي وطلع فوق ربوه وقال لابنه خذ القطيع الى تلك السدرة واحبسه هناك لا تتركه ينفلت منك حتى آتيك
فنفذ الابن وصيه ابيه وذهب الطيب الى بشار واتصل بأحد الاقارب هناك فجاء بالأكل والماء في سيارة ولكن عند منتصف النهار تغير الجو بالغبار واختفت اثار الماشية و عندما كان راكبا في السيارة وهي تجري رأى الكثير من اشجار السدر ولم يعرف المكان الذي اتفق عليه مع ابنه فنزل من السيارة و تركها ترجع وعاده يسير على قدميه عبر الطريق لعله يجد ابنه فقطع مسافه 30 كيلومترا راجلا حتى عاد الى بشار على قدميه ولم يجد ابنه
وصل الاب ليلا الى دار المجدوب ابن عمه فقيل له انه يصلي التراويح في المسجد فذهب الاب الى المسجد وصار ينادي بصوت مرتفع على المجدوب عندما سمعه المجدوب عرف حاله السيئة فذهب اليه واخبره الخبر وانه يخشى على ابنه فربما قد قتله قطاع الطرق واخذوا الماشية فاخذوا سيارة في ذلك الليل وذهب بها نحو لاقار بالهواري وصاروا يحرقون العجلات السيارات القديمة ويسيرون حول الطريق المعبد والسيارة تتبعه من خلفهم الاب ينادي على ابنه بأعلى صوت
أما العربي عندما لم يعد ابوه خاف عليه ربما قد دهسته سيارة لان اباه كان ضعيف السمع فاحس بنشاط وقوه وصار همه العثور على ابيه ولما جاء الليل اخذ الطفل العربي القطيع الى مكان مرتفع وصار يرميه بالأحجار حتى نام القطيع وربطه بطرف عمامة ابيه وربط النعجة في طرفها الاخر حتى اذا نام وهربت الشياه ايقظته
ونحو الساعة الثانية عشر ليلا وبينما كان العربي نائما سمع صوتا خافتا يشبه صوت ابيه وهو غارق في النوم سمعه عده مرات فاستيقظ وسمع صوت السيارة فرأى الاضواء وسمع الاصوات فعرف صوت ابيه ففرح وصار ينادي ها انا ها انا يا ابي وساق القطيع نحو الضوء
أخبر الرجال رفاق الوالد انهم قد وجدو ابنه فلم يصدقهم ولما التقى بابنه عانقه عناقا حارا وسأله عن سلامه القطيع
كان عناقا حارا بالدموع غطّاه ظلام الليل.

يمكنك مطالعة كتاب المذكرات كاملا من هنا : إضغط على الرابط 

#مذكرات #توثق #الحياة #جنوب #غرب #الجزائر  #بين #المدرسة #والقطيع
يتم التشغيل بواسطة Blogger.