التداولية في الدلالة اللغوية والدلالة الإصطلاحية

0

 التداولية مصطلح لساني غربي؛ يعبر عن اتجاه لساني حديث تطور في فترة السبعينات من القرن العشرين؛ يعنى بدراسة اللغة ضمن أسيقتها اللغوية وغير اللغوية. وهذه الدراسة تجتهد في تتبع الدلالة اللغوية والاصطالحية لهذا المصطلح في الثقافة اللسانية الغربية، وكيف انعكس ذلك على الثقافة اللسانية العربية، ترجمة وتعريبا في المصطلح والمفهوم؛ مع الوقوف على عملية الفصل بين التداولية كمنهج لساني، وبين الذرائعية كمذهب فلسفي نفعي.

قوبل المصطلح الأجنبي " PRAGMATICS " بكم هائل من المصطلحات العربية لدرجة التبذير والفوضى، ولكن هيمنةَ التداول كانت من نصيب مصطلح التداولية الذي وظفه الباحثان المغربيان "طه عبد الرحمن و أحمد المتوكل"، أما تعاريف الألسنيين العرب المحدثين فقد جاءت متقاربة لا تخرج عن مجال اللسانيات، وكلها تركز على السياق التخاطبي؛ وبعبارة أدق وأوضح سياق الحال أو المقام، ولذلك وجدنا منهم من يقول التداولية هي: المقامية.

في دلالة الجذراللغوي :

يعود أصل المصطلح الأجنبي "PRAGMATIQUE LA " إلى الكلمة الالتينية "PRAGMATICUS"، ومبناها على الجذر " PRAGMA" ؛ الذي يعني الفعل" ACTION"، وبفعل اللاحقة " TIQUE " صارت تعني كل ما له عالقة بالفعل والتحقق العملي في الواقع، وقبل أن يدخل هذا املصطلح مجال الحقول الفلسفية والأدبية استعمل في المجال القانوني ، وبالتحديد في عبارة "SANCTION PRAGMATIQUE " التي تعني المنشور أو المرسوم الذي يرمي إلى اقتراح حلول نهائية، وقابلة للتطبيق والتحقق في الواقع لقضيةِ  مهمة، ثم وظف هذا المصطلح في مجال العلوم الصرفة، ليدل على كل بحث أو جهد علمي أفضى إلى نتائج قابلة للتطبيق العملي؛ ثم صار يطلق في اللغة المستعملة في عبارات مثل:

هذا تفكير عملي، أو هو شخص عملي واقعي : أي نزاع وميال إلى اقتراح وإيجاد الحلول العملية والواقعية لما قد يطرح من مشاكل وعقبات.1

المفهوم الاصطلاحي للتداولية : 

إنه لمن الصعوبة بمكان الإلمام بتعريف مضبوط ودقيق للتداولية وذلك لألسباب التالية:

 1 - اتساع رقعتها المفهومية بحيث إنها لا تنتمي إلى أي من المستويات اللغوية المعروفة لدى الباحثين ، فهي دراسة فضفاضة، تلقي بظلالها على جميع المستويات.

2 - تعد التداولية ملتقى لكثير من العلوم، في حين أنها لا تقف وتستقر عند أحد منها، فهي تلتقي مع علم الدلالة، وعلم اللغة الاجتماعي، وعلم اللغة النفسي، وتحليل الخطاب. 2

لذلك اختلفت تعريفات التداولية حسب التربة التي نشأت فيها، فكل باحث يحاول أن يعرفها وفق الجانب المعرفي الذي يعتمده في بحثه، فتعريف اللغوي يختلف عن تعريف الاجتماعي، وتعريف الأخير يختلف عن تعريف النفساني وهكذا، ولكن السمة الغالبة التي تجمعهم جميعا تهتم بالتواصل والاستعمال الحقيقي للغة، فهي إذن تعاريف غير متضاربة بقدر ما هي متفاوتة من حيث العموم والخصوص، والضبابية والوضوح.

اقترح الباحث اللساني التداولي ليفينسون "LEVINSON "في مؤلفه "PRAGMATICS" مجموعة من التعاريف، سوف نسوق بعضها لنقف على أوجه الاتفاق والاختلاف بينها .

أ - التعريف الأول: التداولية دراسة الاستعمال اللغوي "USAGE LANGUAGE" الذي يقوم به أشخاص لهم معارف خاصة، ووضعية اجتماعية معينة.

ب - التعريف الثاني: التداولية دراسة للمبادئ التي تمكننا من إدراك غرابة بعض الجمل، أو عدم مقبوليتها، أولحنها، أو عدم ورودها في لغة المتكلم.

ج - التعريف الثالث:  دراسة اللغة في إطارها الوظيفي ، أي فهم بنيات اللغة بالاعتماد على العلل والاستدلالات غير اللغوية " NO LINGUISTICS ".

د - التعريف الرابع : "التداولية دراسة للعلاقات بين اللغة والسياق، أو هي دراسة كفاية مستعملي اللغة في ربطهم لها بسياقاتها الخاصة" .

هـ- التعريف الخامس :" التداولية دراسة لظواهر بنية الخطاب اللغوي من تضمينات، واقتضاءات، أو ما يسمى بأفعال اللغة "ACTS SPEACH".3

واضح جدا من التعاريف السابقة أنها تدور بين الدلالة والاستعمال، وعندما أذكر الاستعمال ينضوي تحته حتما عناصره من متكلم ومستمع ، ومقاصد ونوايا، وسياقَ ومقام، وهي كلها متظافرة تسهم في إبراز الدلالة المقصدية،ِ وتجنبنا تفلت المعنى وتظَشيه .

ولكن هذا لا يمنعنا من الوقوف على تلك التعاريف المرتبطة بالتفكير التداولي في أطوار نشأته الأولى، ولعل أول ما يحضرنا هنا هو تعريف الفيلسوف الأمريكي تشارلز موريس " CHARLES MORRIS "، حين استخدم هذا المصطلح عام 1938م.

فالتداولية بحسب موريس: تهتم بدراسة العلامات، حيث تتشابك العلامات اللغوية فيما بينها وفق نظامها الخاص بها، ثم تأتي مرحلة الإحالة على مراجعها ولولا التركيب لما حدثت إحالة؛ وهذه الأخيرة تبقى دلالات فضفاضة و معاني واسعة، حتى إذا انتقلنا بها إلى إطارها التداولي حصلت المقصدية وزالت الاحتمالية.4

الخاتمة:

التداولية مصطلح يكتنفه الكثير من الغموض، والسبب في ذلك ارتباطه بكثير من القضايا المثارة من قبل كثير من الحقول المعرفية، ولذلك جاءت مفاهيمهم مختلفة تبعا لاختلاف المنطلقات الفكرية؛ ومع ذلك نلحظ أن تعريفات اللسانيين الغربيين كلها تركز على الاستعمال، وتنأى باللغة عن تلك الجدالات العقيمة المبتوتة الصلة بسياق التخاطب. 


المراجع:

1- نواري سعودي: في تداولية الخطاب الأدبي، بيت الحكمة للنشر والتوزيع، الجزائر الطبعة الأولى، سنة 2009م، 

2- محمود أحمد نحلة: آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، دار المعرفة الجامعية، 2002م

3- إدريس مقبول: الأسس الإبستمولوجية والتداولية للنظر النحوي عند سيبويه، عالم الكتاب الحديث، الأردن، الطبعة األولى، سنة 2006م،

4- محمود أحمد نحلة، آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، 2011م

5- مفهوم التداولية  قراءة في المصطلح والمفهوم،عمر بوقمرة، مجلة المدونة، جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف، 2017م



التداولية في الدلالة اللغوية والدلالة الإصطلاحية 

فلسفة علم الفلك نشأة الكون بين التفسيرين، الكلاسيكي والعلمي المعاصر

0

 إنّ علم الكون "الكوزمولوجيا" هو العلمُ الذي يدرسُ الكونَ من حيث نشأته وبنيته وتطوّره، والكونُ هو هذا العالَم الذي نعيش فيه بما يحويه من مادّة مرئيّة وغير مرئيّة.

ولقد استُعملت كلمة الكون (cosmos) في الفلسفة اليونانية القديمة بمعنى التمايز والنظام والانسجام (وأيضاً: الجمال) وهي عكس كلمة الفوضى (chaos) التي تعني أيضاً عدم التمايز والعشوائية. وهذا المعنى ينطبق أيضاً إلى حدٍّ كبيرٍ على الكلمة العربية "الكون": من التكوين أي التشكيل أي إعطاء شكلٍ محدّدٍ لشيءٍ كان غير متشكّلٍ أو غير متمايزٍ أي غير متكوّنٍ؛ وكلُّ ذلك يعود بأصله لرؤية فلسفيّة قديمة للخلق، حيث إنّ بعض النظريّات القديمة تعتبر أن العالَم كان موجوداً بشكلٍ غير متمايزٍ ثم تكوّن على ما هو عليه الآن في هذا الشكل الجميل والنظام البديع.6

علم الكونيات مثله مثل علم الفلك (وهو علم دراسة الأجسام السماوية)، يمكن له اختبار نظرياته فقط عن طريق الملاحظة بدلاً من التجريب. ورغم وجود الكثير من العلماء العالقين في نظريات مثل "قابلية الدحض"لكارل بوبر، إلا أنه لا يمكننا قطعا إجراء تجارب على الكون ككل، وأكثر ما يمكننا القيام به هو تفجير نجم في المختبر فرضاً. وحتى لو تمكنا من تفجير نجم في المختبر، فقد يأخذ المرء الموقف الفلسفي الذي لا ينبغي الأخذ به. 

ومع كل ذلك، بينما يقوم الفلكيون ببناء تلسكوبات لمراقبة ملايين المجرات أو مليارات النجوم، لا يوجد سوى كون واحد نعاينه. بالإضافة إلى كوننا على الأرض عالقون في نقطة واحدة ويمكننا ملاحظة قدر محدود جدا من الكون، تعني كل هذه القيود وغيرها أن الاختيارات الفلسفية سوف تلعب دون شك دوراً في بناء النظريات الكونية واختبارها.1

ولقد ناقشت الفلسفة مسألة نشأة الكون منذ القديم في مبحث الوجود، ولطالما تساءل الفلاسفة عبر العصور عن حجمه وعمره ومادته وآليات حركته،

- فكيف كان التفسير الفلسفي الكلاسيكي لنشأة الكون ؟

- وهل كشف التفسير العلمي المعاصر  لغزه المحير، أم لا يزال رهينا للفسفة ؟ 

المبحث الأول: التفسير الكلاسيكي لنشأة الكون

فلسفة ارسطو في  نشأة الكون:

كان أرسطو يعتقد بقدم العالم وقدم الحركة وله في ذلـك حجـة كليـة وجيهـة بعـض الشـيء، منصــبة علــى قــدم الحركـة ولكنهـا قائمـة علـى مبـدأ كلـي فيجـب تقـديمها فالعلـة الأولـى ثابتـة هـي هـي دائمـا لهـا نفـس القدرة ومحدثة نفس المعلول فلو فرضـنا وقتـا لـم يكـن فيـه حركـة لـزم عـن هـذا الغـرض ان لا تكـون حركـة ابـدا ولـو فرضـنا علـى العكـس ان الحركـة كانـت قـدما لـزم انهـا تبقـى دائمـا 3 

فيرى ارسطو واتباعه ان العالم قديم من خلال استدلالهم على انه يستحيل حدوث حادث مـن قـديم مطلقا فأرسطو يعتبر ان الزمن ليس شيئا حقيقيا ثابتا وانما هـو مظهـر فقـط يعتقد ان هذه الزمنية عرضية ومسالة ظاهرية لا حقيقـة لهـا وان العلاقـة ليسـت زمنيـة ولا علاقـة مـؤثر بـاثر انمـا هي علاقة منطقية 

أي انها علاقة مقدمة بنتيجة فالله مقدمة منطقيـة والعـالم النتيجـة واالله مـنح العـالم وجـوده كمـا تمـنح المقدمــة النتيجــة وجودهــا فالنتيجــة فــي القضــية المنطقيــة تتبــع المقدمــة اعنــي المقدمــة تــذكر اولا والنتيجة ثانيا ولكن جاءت اولا في الفكر لا فـي الـزمن فالتقـدم والتـأخر فـي المقدمـة والنتيجـة فكـري لازمني وكذلك واجب الوجود او مفـيض الوجـود علـى العـالم عنـد ارسـطو هـو اول فـي الفكـر لافـي الــزمن3

فلسفة ابن سينا في نشأة الكون:

يـرى ابــن ســينا ان العــالم قــديم بالزمــان حــادث بالــذات قــديم بالزمــان بمعنــى انــه لا أول لوجــوده ، وحادث بالذات بمعنى انه معلول لسبب الاول واجب الوجود ومعلوم ان العلة سابقة ذاتيا لا زمانيا فعند ابن سينا ان االله متقدم على العالم بالذات لا بالزمـان حتـى لا يفضـي الـى القـول بوجـود زمـان قبل هذا الزمان3

جوهر مشكلة قدم العالم بين رأي الفلاسفة ورأي علماء الكلام الأشاعرة:

طرح "الفلاسفة" وعلى رأسهم ابن سيناء المسألة على هذا الشكل: 

فالمنطلق عندهم هو صعوبة التخلص من الإشكالات المنطقية التي تلازم القول ب "حدوث العالم"؛ وهي الإشكالات التي لم تزدها نظرية الجوهر الفرد عند المتكلمين إلا تعقيدا. وفي مقدمة هذه الإشكالات، أن القول بأن العالم "حادث" بالمعنى الذي يعطيه الأشعرية ل "الحدوث"؛ وهو أن الله كان منذ الأزل وحده، لاشيء معهه ثم شاءت إرادته أن يخلق العالم، فخلقه؛ 

هذا القول يدفع إلى التساؤل: كيف نفهم أن الإرادة الإلهية شاءت في وقت ما خلق العالم؟ 

ما الذي جعل الإرادة الإهية لا تخلق العالم قبل وقت خلقه أو بعده؟ 

هل يرجع ذلك إلى قيام "مرجح”، رجح عملية الخلق في وقت دون آخر؟ 

هذا لا يمكن! لأن فكرة "المرجح”، سواء كانت دافعا داخليا أو حافزا خارجيا، لا معنى لها بالنسبة إلى الله المنزه عن الوقوع تحت أي تأثير مهما كان.1 

ولتجاوز هذا الإشكال المنطقي سلك ابن سينا مسلكا اعتقد أنه سيقدم به بديلا عن نظرية الأشعرية؛ فقال: إن "الحدوث" بالمعنى الذي يفهمه المتكلمون لا يمكن البرهان عليه ولا تجنب مشكل "المرجح" فيه؛ ولذلك ينبغي التخلي عن مقولتي "الحدوث" و "القدم "، وهما مقولتان "كلاميتان"؛ أي من وضع المتكلمين؛ والنظر في الأمر من زاوية مقولتين فلسفيتين هما: "الممكن" و"الواجب"؛ وكان الفارابي قد وظفهما من قبل في هذا المجال.

اعتراض الغزالي على ابن سينا في نشأة الكون:3

الوجه الأول : ان يقال للفلاسفة : بما تنكرون على مـن يقـول علـى ان العـالم حـدث بـإرادة قديمـة اقتضت وجوده في الوقت الذي وجد فيه واما دعواهم باستحالة تعلق ارادة قديمة بأحداث شـيء مـا فيعتبرونهــا مــن الضــروريات البديهيــة ، وهــي ليســت كــذلك ، فكيــف تكــون بديهيــة وخصــومها لا يحصرهم بلد ولا يحصيهم عدد وباطل ذلك تمثيل الفلاسفة للإرادة الالهيـة القديمـة بـالإرادة البشـرية الحادثة التي لا يمكن لمرادها ان يتأخر عن ظهورها .

والوجـه الثـاني : يسـتبعد دليـل الفلاسـفة حـدوث حـادث مـن قـديم ولكنـه لابـد لهـم مـن الاعتـراف بـه فـان فـي العـالم حـوادث ولهـا أسـباب والحـوادث لا تسـتند الـى الحـوادث الـى غيـر نهايـة فيجـب ان تنتهي الى طرف وهذا الطرف قديم

رأي ابن رشد :

ناقش ابن رشد الخلاف القائم بين القائلين بأن العالم مخلوق محدث بعد أن لم يكن، وبين الفلاسفة القائلين بأن العالم قديم أزلي مع الاعتراف بأنه مخلوق. فيقول ابن رشد أن الخلاف في هذه المسألة يعود إلى اللفظ، أي خلاف لفظي غير جوهري، لأن في الوجود طرفين وواسطة لقد اتفق الجميع على الطرفين وهما:

أولاً: هناك واحد بالعدد قديم ـ الأول الذي ليس قبله شيء.

ثانياً: هناك على الطرف الآخر كائنات مكونة، وهي عند الجميع محدثة، ولكنهم اختلفوا في هذا العالم بجملته أقديم هو أم محدث؟ فيواصل الفيلسوف مناقشته قائلاً: "إن العالم في الحقيقة ليس محدثاً حقيقياً ولا قديماً حقيقياً لأن القول: إنه محدث حقيقي فاسد ضرورة لأن العالم ليس من طبيعته أن يفنى أي لا تنعدم مادته، والقدم الحقيقي ليس له علة والعالم له علة!!.

إذاً العالم محدث إذا نظرنا إليه من أنه معلول من الله، والعالم قديم إذا اعتبرنا أنه وجد عن الله منذ الأزل من غير تراخ في زمن، الخلاصة أن العالم بالإضافة إلى الله محدث، وبالإضافة إلى أعيان الموجودات قديم".4

وعليه فابن رشد يرى أن كلا الرأين متهافت: 

فقول ابن سينا ب"الممكن بذاته الواجب بغيره"؛ قول متناقض متهافت؛ 

لأنه يجمع بين شيئين متقابلين، كل منهما من طبيعة مختلفة: ف "الممكن" من طبيعته أنه يمكن أن يوجد وأن لا يوجد. بينما "الواجب" هو "الضروري الوجود". والقسمة العقلية تقتضي إما أن يكون الشيء ممكنا، وإما ضروريا، وإما ممتنعا. ولا يمكن أن يكرن "الممكن" واجباء بذاته أو بغيره، إلا إذا انقلبت طبيعة الممكن إلى الواجب، وهذا إلغاء للممكن!

أما احتجاج الغزالي ب "تراخي" الإرادة؛ فاحتجاج فاسد. 

أولا: لأن الإشكال سيبقى: ما الداعي إلى "التراخي"؟ هل هناك عامل ما خارجي أو داخلي، وهذا يعود بنا إلى الحاجة إلى مشكل "المرجح"؟! 

ثانيا: يجب أن نتفق على معنى الإرادة نفسها، لنرى هل يعقل القول بتراخيها أو لا يعقل؟ 

يقول الغزالي: الإرادة "صفة من شأنها تخصيص الشيء عن مثله"؛ فالإرادة الإهية خصصت وجود العالم بدل عدمه! ويعقب ابن رشد متسائلا: ولماذا كان هذا التخصيص؟ ثم ما الإرادة؟ أليست هي شوق إلى فعل شيء يستكمل به المريد، أي يلبي به حاجة في نفسه؟ وهل يجوز مثل هذا القول في حقه تعال؟ وأيضا ما معن "المثل" هنا؟ وهل"الوجود" مثل ل "العدم"» أم أنه مقابل له؟ ويدور نقاش طويل عريض حول هذه المسألة.5

محاولة ابن رشد في التوفيق بين الفلسفة وعلم الكلام في مسألة نشأة الكون  : 

كثيرا ما أسيء فهم موقف ابن رشد من مسألة قدم العالم؛ حيث اتُّهم بالقول بقدم العالم، لكن هذا اتهام باطل، ومجانب للحقيقة2 

لأن ابن رشد يعتقد أن العالم مخلوق مصنوع من الله تعالى، وأن لفظ القدم والحدوث لفظ بدعي، وأن الخلاف في المسألة راجع للاختلاف في التسمية، وأن حقيقة اعتقاد ابن رشد في العالم تقوم على آيات دلالة العناية الإلهية الواردة في القرآن الکريم، فضلا عن أن ابن رشد يعارض نظرية الفيض الإلهي التي اتهم بالقول بها أيضًا، والتي يقتضي القول بها القول بقدم العالم. 2

کما أن سبب الاختلاف في الحکم على ابن رشد راجع إلى الجهل بمنهج ابن رشد وبموضوعيته التي فسرها البعض جهلا بأنها انحياز للباطل، وکذلک إلى اقتصار البعض على شروح ومختصرات ابن رشد الفلسفية التي لا تعبر عن رأيه في المسألة، مع عدم الاطلاع الکامل على جميع مؤلفاته الأصلية التي تتضمن حقيقة اعتقاده وعدم فهم کلامه وفق ما يريد ويقصد في مؤلفاته، کما في کتابه تهافت التهافت؛ إذ يظن البعض أن ابن رشد لم ينتقد فيه إلا الغزالي فقط، مع أن الحقيقة أن ابن رشد قد انتقد الفارابي وابن سينا أيضًا، ووافق الغزالي في بعض ما ذهب إليه، وأثبت أن الفارابي وابن سينا قد خالفا الفلاسفة القدماء؛ لأنهم لم ينقلوا عنهم النقل السليم، وأن علومهم ظنية، فيما نقلوا عن الفلاسفة القدماء. 2

ومما يثبت أمانة ابن رشد وموضوعيته، أنه عزا قصور الغزالي في کتابه تهافت التهافت لاقتصاره على النظر في کتب ابن سينا، وأن الفارابي وابن سينا قد شوَّهوا ما ذهب إليه الفلاسفة القدماء، ولم يعرفوا حقيقة ما ذهبوا إليه، لا سيما أرسطو ومن قبله، وذلک لعدم نقلهم النقل السليم عن الفلاسفة القدماء، ولتأثرهم بغثاء الأفلاطونية المحدثة وغيرها من الفلسفات التي لا تمثل حقيقة ما ذهب إليه الفلاسفة القدماء. 2

المبحث الثاني: التفسير العلمي المعاصر لنشأة الكون

انهيار نظرية الكون الساكن:

كانت ميكانيكا نيوتن وقوانينُه جيدة بما فيه الكفاية لكي تفسّر حركة الأجرام في النظام الشمسي، ولكن نيوتن كان مخطئاً تماماً حينما اعتبر، مثل أرسطو، أن النجوم ثابتة وأن الكون الذي هو خارج النظام الشمسي ساكن لا يتحرك. على الرغم من أن ديناميكية الكون يمكن أن تُستنتج بسهولة من خلال نظريّة الجاذبية، ولكن الاعتقاد العميق بالكون الأرسطوطاليسي الساكن كان قوياً جدّاً بحيث استمرّ لثلاثة قرون بعد نيوتن وانطلى حتى على آينشتاين أثناء صياغته الأولى لنظريّة النسبيّة.6

في سنة 1718، قام ادموند هالي برصد النجوم وقارن مواقعها مع المواقع التي سُجّلت من قبل البابليين والفلكيين القدماء الآخرين فأدرك أنّ مواقع بعض النجوم ليست تماماً كما كانت عليه قبل آلاف السنين؛ فبعض هذه النجوم قد غيّرت مكانها بالنسبة للنجوم المجاورة بمقدار صغير ولكنه كان ملحوظاً وواضحاً. في عام 1783، اكتشف وليام هيرشيل الحركة الشمسية، أو حركة الشمس بالنسبة إلى النجوم المجاورة، وبيّن هيرشيل أيضاً أنّ الشمس والنجوم الأخرى تنتظم مثل قرص الرحى وهو ما سمّي فيما بعد بمجرة درب التبّانة.

بعد أكثر من قرن، في عام 1924، استطاع هابل قياس المسافات إلى بعض النجوم مستنداً على مبدأ انحراف الطيف نحو الأحمر وبيّن أنّ بعض النقاط اللامعة التي نراها في السماء ونحسبها نجوماً هي في الحقيقة مجرات أخرى تشبه مجرتنا، ولكنها تبدو صغيرةً جداً بسبب بعدها السحيق في عمق الفضاء. 6

من جهة أخرى فإنّ اكتشاف انحراف الضوء القادم من النجوم نحو الطرف الأحمر من الطيف لم يكن له أيّ تفسير سوى أنّ هذه النجوم تتحرّك بسرعة كبيرة مبتعدة عنّا، وهو ما عُرف لاحقاً بتمدّد الكون. 6

وبذلك فإن النظريّة الأرسطوطاليسية للكون الساكن قد انهارت تماماً، وأصبح من المؤكد أن جميع الأجرام في الفضاء هي في حركة دائمة كما يقول الله تعالى في سورة يس ﴿ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون [40]﴾. 6

نظرية الإنفجار العظيم تدعم نشأة الكون من العدم:

كما أشرنا أعلاه، كان العلماء حتى بداية القرن العشرين يؤمنون أن الكون ساكنٌ خارج النظام الشمسي، وهو ما عُرف بنموذج أو نظريّة الحالة المستقرة ، لكن ذلك أثبت عدم صحته خاصة مع اكتشاف تمدد الكون بعد قياس أطياف النجوم وملاحظة انحرافها نحو الأحمر.

في الحقيقة فإن نفس النظريّة التي حاول آينشتاين أوّلاً أن يجعلها تفسّر سكون النجوم أثبتت لاحقاً أنّ الكون يتوسّعُ مما يعني أنه بدأ في لحظة معينة، قبل حوالي خمسة عشر ألف مليون سنة، من نقطة صغيرة جدّاً، لكن بكثافة عالية جدّاً، وبعد ذلك توسّع إلى حالته الحالية. هذه الرؤية دُعيت باسم "الانفجار العظيم" (big bang)، والعديد من النماذج الكونية طُوّرت استناداً على هذه النظريّة. 6

لقد حاولت نظريّة الحالة المستقرة تفسير توسّع الكون بافتراض وجود خلق مستمر للمادة مما يملأ الفضاء ويؤدي إلى هذا التوسّع، لكنّ اكتشاف الإشعاع الخلفي للأمواج الميكروية في عام 1965 أدّى إلى انهيار نموذج الكون المستقر كلّيّاً لصالح نظريّة الانفجار العظيم، حيث فُسّر الإشعاع الخلفي على أنه الانعكاس المتبقّي من الانفجار العظيم، كما تنبّأ بذلك ألفر وهيرمان من قبلُ في عام 1949. 6

إن المشكلة الوحيدة بالنسبة للإشعاع الخلفي أنه كان متجانساً في جميع الاتجاهات، لأنه مع هذا التجانس لا يمكن تفسير نشأة النجوم والمجرات كما هو الأمر في الواقع، فقط في سنة 1992 استطاع القمر الصناعي المستكشف لناسا (COBE) اكتشاف أوّل عدم تجانس في هذا الإشعاع الخلفي؛ عبارة عن جزء واحد في مائة ألف، مما قد يُشيرُ إلى البذور الأولى التي تشكلّت منها المجرّات. 6

لقد كان نموذج الانفجار العظيم ناجحاً جدّاً في تفسير العديد من الملاحظات والأرصاد، رغم ما فيه من التناقضات التي حاول بعض العلماء حلّها، وقد تمّ بالفعل حلّ العديد من هذه التناقضات من خلال السيناريو التضخّمي، الذي ابتكره ألان غوث في عام 1979 حين فرض أنّ تمدد الكون في اللحظات الأولى من الخلق (عند حوالي 10-32 إلى 10-43من الثانية) قد تمّ بشكل تصاعدي نتيجة الكثافة الكبيرة والضغط العالي الذي كان فيه، ولكن لا تزال هناك أمور كثيرة عالقة لا يمكن تفسيرها وفق هذا النموذج. من أجل ذلك بدأ العلماء يفكرون بنظريّات أخرى لحل هذه المشكلات، وكان لا بدّ من سبر إمكانيات ميكانيكا الكمّ الذي قد بدأ يثبت جدارته على المستوى الذرّي. 6

الخاتمة:

كانت النقاشات الفلسفية مستمرة عبر قرون بين المؤمنين والماديين تزداد وتقل وفق العصور المختلفة بين قولين: هل الكون مخلوق أم أزلي؟ وكان للمؤمنين بالخالق ردودهم على الفلسفة المادية عن طريق الإثبات الفلسفي للكون المحدَث، وهو بطلان مفهوم التسلسل إلى اللانهاية، ومفهوم الذاتي والمكتسب وقانون العلة 

(كل محدَث يحتاج إلى خالق).7

وبعد ثبات نظرية الانفجار العظيم برزت قضية الخلق من جديد، وهذه المرة عن طريق العلم، فقد ثبت أن للكون بداية، وبالتالي من المنطقي أن يسأل الإنسان عن الخالق. لكن مع ذلك مازال هناك من العلماء المتخصصين من يرفض فكرة أن للكون خالقاً!! 7

ونختم بحثنا بكلام أحد العلماء المؤيد للتفسير الغيبي لأصل الكون، عالم الفيزياء "شارلز تاونز" الحاصل على جائزة نوبل والذي قال: «العلم كما نعرفه مبني على أساس السبب والأثر والمكان والزمان، فكيف يمكننا تفسير أصل الكون على أساس العلم؟ لا يمكنني أن أفهم كيف يمكن للعلم وحده وأن يفسر أصل كل الأشياء. صحيح أن الفيزيائيين يأملون التوصل إلى ما بعد الانفجار العظيم وإمكان تفسير أصل الكون الذي نحن فيه، ولكن كيف بدأ أصل الكون في الوجود؟ في نظري السؤال عن أصل الكون سيبقى من غير إجابة إذا اعتمدنا على العلم وحده».7

المراجـــع:

1- ترجمة آلاء أبو رميلة ، (2018م)،علم الكونيات بدون فلسفة.. هل هي سفينة بدون هيكل؟، ميدان، الجزيرة نت. 

2- سلمان نشمي العنزي . (2021).  موقف ابن رشد من مسالة قدم العالم. مجلة  كلية الآداب جامعة القاهرة.

3- مصطفى فاضل كريم الخفاجي.(2019).المنهج النقدي عند ابن رشد للرد على الفلاسفة في مسالة قدم العالم. جامعة بابل

4- كتاب العقل والنقل عند ابن رشد. محاولة ابن رشد الحل الوسط في قضية قدم العالم. المكتبة الشاملة.

5- محمد عابد الجابري. (1998). تهافت التهافت. مركز دراسات الوحدة العربية

6-محمد علي حاج يوسف،(2013م)، الكون والزّمن: بين الفلسفة والعلم الحديث، مجلة الإمارات الثقافية. 

7-كيف نشأ الكون،(2014)، العدد 24 من مجلة العربي العلمي، موقع بالعربيك.


فلسفة علم الفلك نشأة الكون بين التفسيرين، الكلاسيكي والعلمي المعاصر

فلسفة ومنهج ابن خلدون

0

 تتخذ فلسفة ابن خلدون عدة جوانب ، إنطلاقا من فلسفته الاجتماعیة والتي وضع من خلالها تفسیر للعصبیة وروح الاجتماع وروح السیاسة ، إلى فلسفة التاریخ من وجهة نظره والتي اعتمد فیها على وجود مناهج تصنف الوقائع إلى صنفین ، الصنف الأول : الوقائع الاقتصادیة والجغرافیة ، ثم تأتي الوقائع النفسیة التي هي نتیجة للوقائع الأولى إلى حد كبیر ، وتضمینه لفلسفة التاریخ ثلاث حركات متضایفة من حركات الوعي : حركة الوعي بالذات ، حركة الوعي بالمجتمع ، حركة الوعي بالتاریخ .

كما لا يجب إغفال فلسفة ابن خلدون الخُلقیة والتي تكلم فیها عن الفضائل التي یُعجب بها ، اما اشتغاله بمسائل الفلسفة فلا تخفى علاقة ابن خلدون بالمنطق الأرسطي وعلاقته ببعض الفلاسفة العرب ، وعلاقته بالعامة الذین رأى بأنهم أوفر حظاً في الحصول على السعادة في الحیاة الدنیا والآخرة من الفلاسفة والذین هم برأیه المتوافق مع رأي الغزالي قد شذوا عن الدین والشرائع السماویة.

فهل بالفعل كان ابن خلدون فیلسوفاً ؟ ، وما سبب خوف ابن خلدون من " تهمة " الفلسفة؟.

المبحث الأول:

1- التعريف بابن خلدون :

هو عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن جابر، ، و حصل على لقب ابن خلدون نتیجة نسبه إلى جده التاسع خالد الذي شارك في فتح الأندلس وكان يدعى خلدون تعظيما له على عادة أهل الأندلس،

في تونس في غرة رمضان من عام 732 ه ( 27 أیار 1332 م )، وكان ینتمي إلى عائلة عریقة ونبیلة معروفة في اشبیلیة وتونس بدور أفرادها السیاسي والفكري ، ونتیجةً لكون تونس في ذلك الوقت مركز للعلماء وأهل الفكر ومستقر لِألمع العلماء والأدباء الذین رحلوا من الأندلس ومن غیرها ، استفاد منهم بأن أصبحوا معلموه وأساتذته بالإضافة إلى والده ، وهذا كله ساهم في صقل شخصیته وتنمیة فكره واكتسابه لعلمه وإعداداته لمهارات الإدارة والحكم .  

هناك العدید من الباحثین والمؤرخین الغربیین الذین أبدوا تقدیرهم وإعجابهم لما جاء به ابن خلدون من علم وأفكار ومنهم المؤرخ البریطاني أرنولد توینبي الذي قال عنه " قد أدرك وتصور وأنشأ فلسفة للتاریخ ، هي بلا شك أعظم عمل من نوعه خلقه أي عقل في أي زمان ومكان " ، أما روبرت فلینت فقال " من جهة علم التاریخ أو فلسفة التاریخ یتحلى الأدب العربي باسم من ألمع الأسماء . فلا العالم الكلاسیكي في القرون القدیمة ، ولا العالم المسیحي في القرون الوسطى ، یستطیع أن یقدم اسما یضاهي في لمعانه اسم ابن خلدون".

2- فلسفة ابن خلدون :

قام إبداع ابن خلدون في تطبیق منهاج الترصد والمشاهدة على دراسة المجتمعات ، بالتوفیق مع أسلافه من أعاظم فلاسفة العرب في مؤلفاتهم عن العلوم الطبیعیة والطب ، ولا یوجد دلیل صریح على ارتباط ابن خلدون بمفكري اليونان القدیمة كما صنع فلاسفة العرب نحو منطقیات أرسطو مثلاً ، وكان كتابا اليونان القدیمة الرئیسان اللذان یُمكن أن یوحیا إلى ابن خلدون مجهولین لدیه ، وهما : كتاب السیاسة لأرسطو ، وكان لا يزال مفقودا في ذلك العصر ، وكتاب الجمهوریة لأفلاطون ، وبالتالي عدم وجود ارتباط بينها وبین مقدمة ابن خلدون ، وعليه كان لزاماً البحث في مقدمته للتعرف على فلسفته الخاصة وتفسیر اتجاه مباحثه.1

ركز في مقدمته على علم التاریخ وعلى خطورة هذا العلم ، لما له أهمیة خاصة في نظریته الجدیدة التي وضعها " علم الاجتماع الإنساني و العمران البشري " ، وقد ركز علیه في فصول مقدمته حتى یلفت أنظار الدارسین إلى الأهمیة القصوى لهذا العلم تقییماً وفلسفة وتصویباً.

قام ابن خلدون بالفصل التام بین الفلسفة والوجود حتى لا یقع في المآزم و المشكلات التي تواجهها الفلسفة الفیضیة ، ، وهذا یعني بأن التاریخ هو الفلسفة في حالة التحقق والفلسفة هي التاریخ في حالة التعقل ، ویرى ابن خلدون بأن التاریخ العربي الإسلامي قد وصل إلى حالة التعقل وقد شارف على الوصول إلى الحكمة الكاملة ولكن تعرض لبعض العقبات التي منعت ذلك وهي عدم بروز الإنسان فیه كمحور أولي.3

المبحث الثاني:

1- نقد ابن خلدون للفلسفة:

تأثر ابن خلدون في نقده للفلسفة بآراء كل من الغزالي وابن تیمیة . 

یتفق ابن خلدون مع الغزالي من خلال القول بأن العقل البشري محدود وغیر قادر على النظر في حقائق الكون إلا ضمن نطاق محدد ومعین ، وشبه ابن خلدون العقل البشري بمیزان الذهب الذي لا یمكن استخدامه عند وَزن الجبال ، ومن وجهة نظره فإن العقل البشري عاجز عن فهم الأمور الاجتماعیة بالإضافة إلى الأمور الإلهیة، يقول ابن خلدون : "ومن هنا یتبین أن صناعة المنطق غیر مأمونة الغلط لكثرة ما فیها من الانتزاع وبعدها عن المحسوس ... ".

و في الفصل الذي وضعه بعنوان " في إبطال الفلسفة وفساد منتحلیها " ، فقد تحدث من خلاله بقصور المنطق الذي یتبعه الفلاسفة من ناحیتین :الأولى من ناحیة النظر في الإلهیات ، والثانیة من ناحیة النظر في الموجودات الجسمانیة والتي تسمى من قبلهم بالعلم الطبیعي ، فالنتائج الذهنیة التي یتم التوصل إلیها تستخرج بشكل غیر یقیني ، كما أنه أشار إلى أن بعض العلوم تخضع لمنطق أرسطو كعلم الهندسة والحساب ، أما العلوم التي لا تخضع لهذا المنطق فهي العلوم والمعرفة الاجتماعیة.

لقد قام ابن خلدون بتقدیم نقد شدید للمنطق الذي انتهجه الكثیر الفلاسفة ، وقد سار بشكل مشابه لمسار الغزالي قبله، وتحدث بأن المنطق القدیم لا یفید إلا بشكل محدود جداً ، ففي البدایة جاء الغزالي وحدد نطاق الاستفادة من المنطق ثم تبعه ابن تیمیة وجاء ابن خلدون لیزید هذا التحدید ، فهذا المنطق في رأي ابن خلدون یفید فقط في ترتیب الأدلة ، فالباحث لا یستخدم المنطق إلا بعد الانتهاء من البحث من اجل أن یقیم البراهین بشكل مرتب ومنسق ، أما استخدام المنطق بطریقة تختلف عن ذلك حسب رأیه تؤدي إلى نتائج خاطئة.

2- منهج ابن خلدون: 

يتسم منهج ابن خلدون في الناحیة التاریخیة بالنقد الدقیق ، فهو لم یكتفِ بالحدیث عن التاریخ والمؤ رخین وأخطائهم وضرب الأمثال ، بل كان یتطرق إلى هذا العلم في العدید من فصول مقدمته المتعلقة بالعمران ، فمثلاً في فصل " طبیعة العمران في الخلیقة " ، ذكر بأن التاریخ یخبر عن الاجتماع الإنساني ، فهو وسیلة للتعرف على المجتمعات الإنسانیة من خلال دقة الخبر و صدق الروایة ، وإن لم یحدث ذلك هو مزیف، حيث تعرض هذا العلم حسب ابن خلدون إلى العدید من أشكال التحریف و التشویه دون أن تدرك الأجیال المتعاقبة ذلك .

فلقد قام بإخضاع العدید من الأمثلة للنقد من خلال بعض الأسس التي وضعها هو وفي النهایة قام برفضها كما رفضها من قبله ، ومن الأمثلة على ذلك ، " خبر رواه المسعودي عن الإسكندر الأكبر حین فتح مصر وأراد بناء الإسكندریة فصدته دواب البحر عند بنائها ، فاتخذ صندوق الزجاج وغاص فیه إلى قاع البحر حتى صور تلك الدواب الشیطانیة التي رآها وعمل تماثیلها من أجساد معدنیة ونصبها حذاء البنیان ففرت الدواب . لقد حلل ابن خلدون هذه الروایة بأسالیب شتى وانتهى إلى أنها حدیث خرافة مستحیلة.

ویحلل ابن خلدون أخبار المؤرخین وروایاتهم التاریخیة على أساس بعض المعاییر التي توصل إلیها من خلال الممارسات الاستق ا رئیة ، والعلل العقلیة وأرجع أسباب الخطأ إلى العوامل التالیة :

1- المیل إلى التحیز إلى أ ري من الآ ا رء أو فئة من الفئات مما یؤدي إلى تصدیق كل الأفكار و الأخبار التي توافقها

2- التعدیل والجرح نتیجة للثقة بمن ینقلون هذه الأخبار دون التأكد منها .

3- التقرب إلى أصحاب المناصب الرفیعة من خلال المدح والثناء مما یجعل الناس تتناقل الأخبار التي تحمل الغلو والمبالغة فتضیع الحقیقة معها .

4- الخروج عن الهدف و المقصد الحقیقي للخبر لأن الناقل یقع في تخمینه وظنه فهذا یؤدي إلى الوقوع في الكذب .

5- نتیجة الثقة بالأشخاص الذین ینقلون الأخبار فیحدث هناك نوع من التوهم بالصدق .

6- عدم المعرفة بطبائع الأحوال في المجتمعات ولدى الجماعات ، فلكل حادثة وروایة وخبر ظروف خاصة بها فهذا یؤدي إلى الوقوع في الخطأ.


الخاتمة:

عند محاولة تحدید موقع ابن خلدون من الفلسفة یجب أولا تعریف الفلسفة والفیلسوف ، فقد كان " الفیلسوف " لقب یطلق على من اتبع طریق الفلسفة الإغریقیة واستخدم المصطلحات الفلسفیة التقلیدیة مثل الهیولي والتسلسل وواجب الوجود والدور ، وكان هذا المفهوم یطلق قدیماً وفي العصر الإسلامي ، لذلك كان عدد الفلاسفة محدود وكان منهم ، الفارابي و ابن سینا وابن رشد ، وأي شخص ینقد هذا المسار یعتبر خارج دائرة الفلاسفة. أما حدیثاً فقد اختلف مفهوم الفلسفة والتي عرفت بأنها " كل محاولة عقلیة یأتي بها مفكر لتفسیر الكون ومكان الإنسان فیه "، ومن خلال هذه التعریفات یصبح ابن خلدون فیلسوف من الدرجة الأولى ، فجمیع أفكاره كانت تدور حول الكون والمجتمع وما توصل إلیه الفكر البشري من الفلسفة في ما سبقه من عصور.2


المراجع:

1- بوتول ، غاستون .( 1984 ). فلسفة ابن خلدون الاجتماعیة ، عادل زعیتر ، بیروت : المؤسسة العربیة للد ا رسات والنشر.

2- الوردي ، علي .( 1994 ). منطق ابن خلدون ،  بیروت : دار كوفان للنشر .

3- نصّار ، ناصیف .( 1985 ). الفكر الواقعي عند ابن خلدون ، بیروت : دار الطلیعة للطباعة والنشر .


فلسفة ومنهج ابن خلدون


يتم التشغيل بواسطة Blogger.